…دولة فاشلة

لبنان دولة فاشلة
لن يختلف اثنان على أن التركيبة اللبنانية معقدة للغاية ديموغرافيا وطائفيا مما يتطلب إقامة توازن بين مكوناتها كي لا يتعرض البلد للتفكك والاقتتال فيما بين تلك المكونات وللحيلولة دون وقوع أزمات قد ترقى إلى كارثة وجودية ناهيك عن الشلل الدائم الذي يمنع تطوير البلد والوقوف على خدمة مواطنيه التي هي المهمة الأساسية للدولة، أي دولة.

وما العجز المزمن للدولة عن توفير احتياجات أساسية مثل الماء والكهرباء والدواء والتعليم والتقدمات الإجتماعية للمواطن إلا دليل صارخ على ذلك العجز. وبهذا المفهوم يعتبر لبنان دولة فاشلة.

اقرأ أيضاً: نحن والأرقام: علاقة عكسية

التعقيد الموصوف أعلاه لبنية لبنان لا يبرر الفشل الحاصل في إقامة توازن ناجح بين مكوناته. على العكس من ذلك، يمكن استثمار ذلك التنوع والتعدد في مشروع وطني ناجح. أنظروا إلى الهند وغيرها من الدول الأكثر تعقيدا عرقيا ومذهبيا ولغويا كيف استطاعت أن تبهر العالم بنجاحاتها. لا يقولن أحد أن عوامل الحجم معطوفة على التعقيدات الخارجية المحيطة بلبنان تفسر وتبرر عجزه عن خلق توازن منتج.

السبب الحقيقي للفشل الحاصل هو وجود طبقة مهيمنة تستفيد من تشرذم البلد ولا مصلحة لها في توحيد وتدعيم كيانه وتفعيل مؤسساته الدستورية والإقتصادية كي ينتج ويزدهر.
التوازن الهش القائم في لبنان، إذا صح وصفه بالتوازن، يقوم على تقاطع مصالح مكونات الطبقة السياسية الحاكمة والقوى التي تتمتع بنفوذ سلطوي مناطقيا قائم على المال والسلاح و”هيبة” زعماء الطوائف. هذا التوازن المهزوز معرض للإنهيار في أي لحظة. الآلية الحالية المعمول بها لصيانة هذا “التوازن” وضمان استمراريته تقوم على الفساد والمحسوبية والمحاصصة وما يرافق ذلك من غياب حكم القانون وانعدام المساءلة والمحاسبة، كل ذلك يصب في مصلحة الطبقة المهيمنة على البلد على قاعدة “مرق لي أمرق لك”.

على مستوى الحكم، نتج عن هذا الوضع الشاذ سيرك يسمى الحكومة اللبنانية. لكل سائس ومهرج وحيوان فيه عرضه الخاص. يتوقع من المواطن أن يتفرج وأن يصفق لبهلوانه المفضل ويصفر لمن لا يحب، وما على الجميع إلا التصفيق والتصفير بحرارة للجميع بعد انتهاء العرض. السيرك الحالي لن يستمر طويلا نظرا لأن توليفته أصبحت معلقة بخيطان “مصيص” آخذة بالتفكك بسبب ثقل الأزمة، ناهيك عن القنابل الموقوتة الأخرى مثل مجرى ومآل الحرب السورية، والنتائج التي قد تتوصل إليها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.

الجمهور بدأ، كما رأينا في الحركة الإحتجاجية المدنية الأخيرة، يتململ ويتحول من وضع المتفرج السلبي إلى الناشط الساعي إلى هدم السيرك على رأس من فيه.

كهرباء لبنان

تصوروا بلدا يقع على ضفاف بحيرة نفطية واسعة تحكمه حكومة عاجزة عن استثمار تلك الثروة النفطغازية لحل أزمة الكهرباء والماء والمديونية بسبب الصراع بين مكوناتها على الحصص وتقاسم العائدات المنتظرة فيما بينها.

تصوروا بلدا تقع فيه جرائم كبرى عديدة من اغتيالات وملفات أمنية خطيرة عجزت حكوماته المتتالية على مدى نصف قرن من الزمان عن التحقيق الشفاف الناجز ولو بواحدة من تلك الجرائم وسوق مرتكبيها إلى العدالة.

تصوروا بلدا يضع فيه كل وزير سياسة وزارته حسب ذوقه وعلى قياسه ووفق مصلحته الحزبية أو الشخصية الضيقة أو تحالفاته الداخلية وولاءاته الخارجية.
تصوروا مجلس وزراء غير منتج، كدجاج لا يضع سوى بيضا فاسدا، هذا إذا دخل القن ليبيض. وتصوروا ممثلي أمة لا يقومون بواجباتهم الدستورية من تشريع واستحقاقات أساسية ثم يقفون في الطابور آخر كل شهر لاستلام رواتبهم ليطعموا عائلاتهم وينفخوا كروشهم بينما المواطن يعاني من المرض وسوء التغذية والزبالة.

ألا يستحون!
كل هذا داخلياً، أما خارجياً،
فتصوروا بلدا يشحذ من الخارج لسد حاجته ورفع عملته، لكنه في نفس الوقت غير قادر على تبني سياسة خارجية مستقلة واضحة ومتناسقة يتعامل بها مع الخارج على قاعدة تحييده عن الصراعات والنزاعات الناشبة حوله. كيف لذلك البلد أن يضمن صداقات ولا يولد عداءات غير ضرورية. كيف يستحق ذلك البلد احترام العالم إذا استمرت سياسته الخارجية قائمة على الإستثناء والخضوع والمحاباة. إنها سياسة أقل ما يقال عنها أنها غير مهنية تعوزها الخبرة والحنكة الدبلوماسية التي تقوم على كلمة هنا أو عبارة هناك.

الإرتهان للخارج علة لبنانية حصرية بامتياز. في السابق، ذهب اللبنانيون إلى الطائف والدوحة لوضع مواثيق وطنية دستورية والإتفاق على تسويات سياسية ضمانتها الوحيدة الرعاية الخارجية بدلا من الجلوس معا على مدرج باخوس، مثلا، للإتفاق على حلول صنعت في لبنان. أتساءل هل سيذهبون في المرة القادمة إلى نواكشوط للغرض.

تعتمد استمرارية الكيان اللبناني على القدرات الخلاقة لشعبه وبفضل المبادرات الفردية التي لولاها لكان انتهى مع انتهاء الحرب الأهلية الأخيرة أو مع كل خضة أمنية كبيرة، إلا أن هذه الدينامية الذاتية لايمكن أن تستمر إلى الأبد ولا يعول عليها وحدها لبناء الدولة.

اقرأ أيضاً: صحافة السفارات… وصحافة الملائكة!

بلد كهذا فاشل بكل المعايير. أخذ خزان طاقة التحمل وصبر الشعب على هذا الوضع المخزي بالنفاذ، ولن ينقذ لبنان هذه المرة سوى تحرك شعبي عارم عابر للطوائف والمناطق والمصالح الضيقة، يهز الطبقة الحاكمة الفاسدة

السابق
ما هو «الآتي الأعظم؟» وهل بدأ الترحيل وسحب الودائع من لبنان؟
التالي
اشتباكات السعديات: لقطع طريق الجنوب على الحريري