عرب وعجم لا سنّة وشيعة

خابت الآمال نتيجة الأزمة الخطيرة بين السعودية وإيران، والتي أدت إلى قطيعة ساندتها دول عربية عدة احتجاجاً على الاعتداءات على المقار الديبلوماسية السعودية في إيران بعد إعدام السعودي نمر النمر، خصوصاً أن القطيعة أعقبت تفاؤلاً ساد عند انتشار أخبار عن بدء حوار بين البلدين حول مجمل الأوضاع في المنطقة كان سيتوّج بلقاء وزيري الخارجية.

 

اشتعال نار الأزمة يعني تجميد الحلول السياسية وتفاقم الأزمات القائمة، من اليمن إلى سورية ومن العراق إلى لبنان، إلا إذا نجحت الجهود الدولية التي ينتظر أن تبدأ فوراً لنزع صاعق التفجير.

 

والمؤسف أن الصراع ارتدى طابعاً مذهبياً، كما أن بعض السياسيين والإعلاميين يصبون الزيت على النار ليروّجوا للفتنة، مع أن كل من يقرأ التاريخ ويربط بين أحداثه يدرك أن الصراع أصله سياسي وأن الأيادي المغرضة ساهمت في التفرقة. فأصل العلة يعود إلى خلفيات تاريخية ونزعات للانتقام لحوادث لا علاقة للأجيال المتعاقبة بها، مع أن الله جمعنا في دين واحد لا فضل فيه لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ثم أكملها الله تعالى بقوله: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».

 

فهي إذاً فتنة بين العرب والعجم، أو بين العرب والمسلمين من جهة والأجنبي من جهة أخرى، نتيجة عُقد تحتاج إلى مجلدات وتبلورت أخيراً في العلاقات العربية – الإيرانية بغطاء مذهبي بغيض أسفر عن حروب وأزمات لا تنتهي. وباختصار، فإن فتح بلاد فارس على يد العرب رسم خط البداية، ولم يكن هناك سُنّة ولا شيعة، ومن ثم تطورت الأمور إلى أن جاءت واقعة كربلاء واستشهاد الحسين، فتبنى الفرس طريق التشيّع، ما أدى إلى الفرقة وهز الخلافة الأموية ومن ثم التسلل إلى الخلافة العباسية وخلخلتها من الداخل لتصبح رهن إرادتهم مع ظهور دويلات هزيلة في وجه الدولة الصفوية في إيران.

 

وللتشديد على ارتباط أحداث اليوم بالماضي، لا بد من العودة إلى الوثائق والكتب والأدب لفهم ما يجري، ومن لا يتعظ بدروس الماضي فلن يتمكن من مواجهة الظروف ومعالجة المشاكل ودرء الأخطار بالدعوة إلى التسامح والمصارحة والمصالحة.

 

وعندما بدأت بإعداد هذا المقال، عدت إلى كتب قديمة كان آخرها كتاب «في الشعر الجاهلي» لعميد الأدب العربي طه حسين، فوجدت فيه فصلاً كاملاً يتضمن وقائع عن قصة العداء الفارسي للعرب في الشعر والسياسة (ص 106 – 117)، أقتبس منه فقرات معبرة: «لم يقف أمرهم عند انتحال الأخبار والأشعار، بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى الانتحال والإسراف فيه. وأنت تعلم أن أصل هذه الفرقة إنما هو الحقد الذي أظهره المغلوبون الفرس على العرب الغالبين… وكان من هؤلاء شعراء يتعصبون للأحزاب العربية، وهذا يسّر عليهم تيسيراً شديداً… ولعل إسماعيل بن يسار أظهر مثل لهذه الطائفة من الشعراء الموالي الذين يبغضون العرب ويزدرونهم ويستغلون ما بينهم من الخصومات السياسية».

اقرأ أيضًا: التشنيع بالشيعة العرب بجريرة إيران

وفي موضع آخر يتساءل: «ومن الذي ينكر أن الفرس قد سيطروا قبل الإسلام على العراق وأخضعوا لسلطانهم من كان يسكن حضره وباديته من العرب؟ ومن ذَا الذي يستطيع أن ينكر أن الفرس قد أرسلوا جيشاً احتل اليمن؟»، وها هو التاريخ يعيد نفسه اليوم مع الحوثيين المدعومين من إيران!

 

ويلفت إلى أنه «على هذا النحو من انتحال الشعر ذكراً لمآثر الفرس وما كان لهم من سلطان ومجد في الجاهلية، كان العرب مضطرين إلى أن يجيبوا بلون من الانتحال فيه تغليب للعرب على الفرس. من هذه الأشعار ما نظمه إسماعيل بن يسار في الفخر بالفرس وفيه قوله: من مثل كسرى وسابور الجنود معاً/ والهرمزان لفخر أو لتعظيم، أسد الكتائب يوم الردع إن زحفوا/ وهم أذلوا ملوك الترك والروم»!

 

وأكتفي بهذا المقدار من الاقتباس الذي أردت منه ربط تراكمات الأحداث وصولاً الى ما نشهده حالياً. فالمضي في سرد الأمثلة يحتاج إلى مجلدات، لكن التطور المفصلي الخطير حدث بعد الثورة الإسلامية في إيران واعتماد سياسة «تصدير الثورة»، وقد هلل لها بعض العرب وتعاطفوا معها بعدما جاء على لسان قادتها عن فلسطين، لكن سرعان ما تبينوا أن الأفعال غير الأقوال.

 

واتضحت الصورة أكثر عند اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية التي استمرت 8 سنوات واستنزفت طاقات البلدين البشرية والمالية، ومعهما دول الخليج، بفعل العناد والتحريض الأميركي الذي وصل إلى حد دعم الطرفين في عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان ومد إيران بأسلحة إسرائيلية (فضيحة «إيران غيت»). وبعد ذلك، حصل ما حصل وأقدم صدام على غزو الكويت (بتحريض من السفيرة الأميركية أبريل غلاسبي) وتلاحقت الأحداث لتصل إلى غزو القوات الأميركية العراق بغطاء شيعي – عراقي علني وصمت إيراني بمثابة «غض طرف»، ومن ثم الوصول إلى وضعه الراهن من فتن وتقسيم غير معلن وفرز مذهبي. ثم اكتملت الفصول في ما شهدته سورية ولبنان واليمن من حروب وأزمات ارتدت الطابع المذهبي، وكان هناك من يريد أن يثأر من العرب.

 

ما زالت الأدبيات الفارسية كلها تروّج لإحياء الإمبراطورية الفارسية. ومن الدلائل البارزة الإصرار على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي، وقد أخبرني الرئيس الشهيد ياسر عرفات أنه ذهب إلى طهران منتشياً لتهنئة الإمام الخميني بالثورة، وخلال الحديث قال له: «عندي اقتراح مهم سيحدث ضجة كبرى إذا عملتم به، فنحن نطلق عليه اسم الخليج العربي وأنتم تسمونه الخليج الفارسي، فلماذا لا تعلن اليوم إطلاق اسم الخليج الإسلامي عليه فترضي الجميع؟»، ويمضي عرفات قائلاً: «وقبل أن أنتهي من كلامي، رد علي الخميني بقسوة وبصوت عالٍ: لا، لا أسمح لك. فارسي ويبقى فارسياً». فسكت عرفات، وأيقن يومهذاك أن كل الشعارات البراقة المعلنة تخفي وراءها مآرب مبيتة.

 

وكان الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز تنبه قبل ذلك بكثير إلى ما يدبر للأمة وللعرب، وإيران خصوصاً، فسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع الشاه على رغم تعنته وعجرفته وتخطيطه للعب دور شرطي الخليج وسط صراع عربي – فارسي، أي قبل بروز أنياب الفتنة السنّية – الشيعية، واستطاع أن يقنعه بالعمل معاً لتحقيق التضامن الإسلامي وإقامة منظمة المؤتمر الإسلامي. كما دعا الإمام المغيّب موسى الصدر إلى زيارة المملكة وأعد له استقبالاً مميزاً في حضور الشهيد كامل مروة، مؤسس جريدة «الحياة» وناشرها آنذاك، والذي كان من أشد المتحمسين للحوار بين المسلمين السنّة والشيعة (وهو للمناسبة شيعي).

 

وتكررت الزيارات التي شهدت جلسات حوار مع رجال الدين السعوديين، بدعم من الملك فيصل الذي قال لهم: «لا أطلب منكم المستحيل، بل وضع قائمة بالأمور التي نتفق عليها أولاً، وفي مقدمها القرآن الكريم والسُنّة النبوية المطهرة، ولنترك الأمور الثانوية الأخرى لحوارات إيجابية وصولاً إلى الهدف المرتجى، وهو وحدة المسلمين». وما كادت الجهود تمضي في الطريق المنشود حتى وقعت الواقعة: اغتيل كامل مروة في عام 1966، ثم اغتيل الملك فيصل في عام 1975، ثم نشبت الحرب اللبنانية في العام ذاته، وسقط الشاه، وجرى تغييب الإمام الصدر في ليبيا بعد ذلك بسنوات، لتتوقف جهود الخير وتطل الفتنة برأسها بعدما كانت نائمة.

 

ولا بد من تأكيد حقيقة ثابتة، وهي أن معظم الشيعة العرب كانوا وما زالوا من أشد المتحمسين للعروبة والمدافعين عن قضية فلسطين، كما أن كثيرين منهم كانوا من قيادات الأحزاب القومية والوطنية واليسارية، فضلاً عن أن المراجع الدينية العليا في النجف الأشرف من السيد الحكيم إلى السيد الصدر، وصولاً إلى المرجع الأعلى الحالي السيد علي السيستاني، هم من أشد المتمسكين بعروبتهم والرافضين نقل المرجعية إلى قم. وقد شهدنا أخيراً انتفاضة تطالب إيران بالكف عن تدخلها.

 

وفي لبنان أيضاً، عُرفت المرجعيات الدينية بمواقفها الوطنية المشرفة في الدفاع عن عروبة البلاد، بدءاً من الإمام الصدر والسيد محمد مهدي شمس الدين ونائب الرئيس الحالي للمجلس الشيعي الأعلى السيد عبد الأمير قبلان، إضافة إلى علماء مهمين مثل المرجع العلامة المرحوم محمد حسين فضل الله والمفتي السيد علي الأمين والشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام السابق لـ «حزب الله»، والسيد محمد حسن الأمين والمفكر الراحل هاني فحص وغيرهم ممن يدافعون عن المرجعية العربية ويرفضون ولاية الفقيه الإيراني.

 

ولا بد من الإشارة إلى أن العرب مدوا أيديهم بصدق إلى إيران للتعاون وكان الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز سباقاً في الانفتاح وأقام علاقات أخوية وودية مع الرئيسين هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي، كما رحب بالرئيس محمود أحمدي نجاد وأمسك بيده ورفعها أمام قادة الدول الإسلامية داعياً إلى أفضل العلاقات. ثم حصل ما حصل من أحداث في لبنان وسورية والعراق واليمن تحمل العنوان المنكر، وهو الفتنة السنّية – الشيعية، وسط حملات إعلامية بغيضة، ما يُبين كيف يعيش العرب والمسلمون في أوهام الماضي وأحداث تاريخ لا علاقة لأي طرف بها، وكأنهم محكومون من جانب أرواح خفية.

 

ومع عدم إنكار التحريض الخارجي والدور الصهيوني، فإن الأجدى بمن يستجيب للتحريض أن ينظر حول العالم ليتعلم كيف استطاعت دوله أن تنسى آلام الحروب وتسامح وتبني وتوحد وتؤمن مستقبل الأجيال. ومع دق ناقوس خطر الفتنة إذا سادت العقليات المدمرة، لا بد من القول أن ساعة الاعتراف بالخطأ حانت، وآن أوان تحكيم العقل وإحباط الفتنة التي روج لها السيئ الذكر وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كسينغر، عندما سُئِل عن رأيه في ما سيحصل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فأجاب بلا تردد: «حروب المئة عام بين السنّة والشيعة»!

 

نعم، هذا ما خُطط له، وهذا ما يدفع إلى الحذر وطرح سؤال بديهي بسيط، هو: أي عالم عربي وإسلامي كنّا سنرى، لو أن مئات البلايين التي أنفقت على الحروب قد رصدت لمشاريع البناء والتنمية والتضامن؟ وأي إيران كنّا سنشهد لو بُذلت كل الجهود لتأمين الرخاء والتقدم ومد اليد للعرب لإقامة المشاريع المشتركة، بدل الإنفاق المفرط على التسلّح والمشاريع النووية؟ وكم نحن في حاجة اليوم إلى الكلمة الطيبة التي حضنا عليها الرسول محمد، صلى الله علي وسلم، والاستماع إلى تحذير الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في قوله: رب كلمة أشعلت فتنة.

 

وأختم بكلمة رائعة ومعبرة للسيد علي الأمين: «لم يكن للصحابة والخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، مذهب سوى الإسلام. فلم يكن مذهب الإمام علي بن أبي طالب شيعياً جعفرياً، ولم يكن الخليفة أبو بكر سنّياً مالكياً، ولا الخليفة عمر بن الخطاب شافعياً، ولا الخليفة عثمان بن عفان حنفياً أو حنبلياً. لقد كان الإسلام مذهبهم جميعاً ومن دون أي قيد آخر». (من كتاب «السنّة والشيعة أمة واحدة») نعم أمة واحدة… ولكن!

(الحياة)

السابق
حدود الدور الإيراني
التالي
جديد التحقيق مع الأمير السعودي…