البطريرك الراعي كسر صقيع «فلاديمير» اللبناني… بحماوة رئاسية

حجب «فلاديمير» إشراقة شمس الـ 2016 عن لبنان، واقتحم بضبابه الكثيف وأبيضه المترامي وأمطاره التي لم تهدأ سهول «الوطن الصعب» كما جباله وسواحله، في عاصفة مناخية، جعلتْها المصادفات اللغوية تستقوي، باسم المجاور في سورية فلاديمير بوتين، الذي تمطر طائراته وماكينته الديبلوماسية جبهات الأزمة السورية بسيناريوات غامضة لتسويات لم تتضح آفاقها بعد، ويصيب وهجها اللاهب وجه لبنان ومخاضه.

لم يكن الأبيض الذي تربّع على جبال لبنان وسفوحها مع التسليم والتسلّم بين الـ 2015 والـ 2016 إشارةً كافية الى ان بلاد الأرز المسكونة بكوابيس السياسة والأمن والاقتصاد، دخلت السنة الجديدة «على بياض». فالوقائع المتوارَثة عن أعوام خلت، تشي بأن البلاد المحكومة بواقع سوداوي، على موعد مع سنة «كبيسة» جديدة تتوالى فيها فصول الصراع المزدوج على السلطة وعلى الموقع الإقليمي للبنان.

«سوء الرؤية» الذي تَسبّب به «فلاديمير» العاصِف أمس، يشبه الى حدّ بعيد «سوء الانقشاع» الذي يخيّم على الواقع السياسي اللبناني، الذي يستهلّ سنته الجديدة بـ «فحص يومي» لمنسوب التفاؤل والتشاؤم حيال المساعي التي بدأت، لكسر المأزق الوطني، الناجم عن تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية منذ 20 شهراً، وترْك البلاد في فم المجهول، في لحظة حروب «الفرز والضمّ» في المنطقة وساحاتها المشتعلة.

آخر هذه المساعي وأهمّها على الإطلاق، كانت المبادرة التي ارتبطت بترشح رئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية للرئاسة، مدعوماً من زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري، وهي المبادرة التي وصفها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بـ «الجدية والمدعومة دولياً»، وذلك في معرض استهجانه لـ «ذروة اللا مبالاة القتّالة المتمثّلة بعناد الكتل السياسية والنيابية في الإحجام عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية رغم مرور شهر على المبادرة العملية والجدية».

وإذ ميّز البطريرك الراعي بين المبادرة والاسم المطروح، أي فرنجية، فإن موقفه الضاغط لا يعدو كونه «صراخاً في البرية» بعدما كان «حزب الله» أعلن، ومن على بوابة الصرح البطريركي الأسبوع الماضي، أن «أخلاقه السياسية» تجعله غير معنيّ بالعمل على إقناع حليفه المسيحي الأبرز، زعيم «التيار الوطني الحر» ميشال عون بسحب ترشيحه للرئاسة لمصلحة حليفه الآخر النائب فرنجية، الأوفر حظاً، وهو الموقف الذي اعتُبر أكثر الإشارات علنية لقرار الحزب بعدم «الإفراج» عن الاستحقاق الرئاسي في ظلّ الوقائع السياسية الراهنة.

ومع تدشين رأس الكنيسة المارونية السنة الجديدة برفْع الصوت من أجل الإسراع في انتخاب رئيس جديد، تستمرّ «التحريات السياسية» عن مغزى تطوريْن هما الأبرز في الملف الرئاسي، الأول يتعلق بالدوافع التي حدت بالقطب الأبرز في «14 آذار»، اي الحريري لترشيح أحد أقطاب «8 آذار» اي فرنجية. والثاني يرتبط بأهداف «حزب الله» من جراء إسقاط خيار فرنجية (كان مرشحه الفعلي) وإنْ بذريعة التمسّك بدعم ترشح عون، الذي يسود اعتقاد بأن الحزب لا يريد «ضمناً» وصوله الى الرئاسة.

أوساط محايدة في بيروت، تعتقد انه بمعزل عن مفاضلة «حزب الله» بين فرنجية وعون، فإن «القطبة المخفية في الملفّ الرئاسي هي ان الحزب لا يريد عودة (الحريرية السياسية) الى سابق عهدها في إدارة الحكم، عاد الحريري الى الحكومة أو لم يعد، فالمسألة بالنسبة الى (حزب الله) هي: القرار لمَن؟ وتالياً فإن الحزب الذي لم يَرُق له تفاهم فرنجية – الحريري، لا يستهدف في إحباطه تفاهُمهما فرصة فرنجية بالوصول الى الرئاسة بقدر ما يريد قطع الطريق على عودة (وازنة) للحريري الى السلطة».

وتذكّر هذه الأوساط بالكلام الكثير الذي قيل عن «اجتثاث الحريرية السياسية» يوم أٌقصى «حزب الله» زعيم «تيار المستقبل» عن الحكم في الـ 2011 وجاء بحكومة يترأسها نجيب ميقاتي للإعداد لانتخابات نيابية كانت مقرَّرة في الـ 2013، وسط خريطة طريق محكومة بهدف مركزي يتمثّل في الإتيان بغالبية برلمانية لمصلحة «حزب الله» وفريقه وبمعزل عن الكتلة الوسطية الترجيحية للزعيم الدرزي وليد جنبلاط.

وفي تقدير الأوساط عيْنها ان «(حزب الله) كان يعتزم يومها الإمساك بغالبية برلمانية تتيح له إحداث تعديلات جوهرية في إدارة الحكم على النحو الذي يجعله صاحب الإمرة في تحديد الخيارات الداخلية والإقليمية للبنان في إطار مشروعه الإستراتيجي كقوّة متقدمة في المحور السوري – الإيراني، وخصوصاً انه كان يدرك ان لبنان مرشّح لمكانة أهمّ في ضوء الثروة النفطية الواعدة».

ورغم انكسار شوكة هذا التوجه مع انفجار الصراع في سورية وترنُّح سلطة الرئيس بشار الأسد، واستقالة حكومة ميقاتي، فإن المشروع الإستراتيجي لـ «حزب الله» لم يتبدّل، في رأي تلك الأوساط، التي رأت ان «الحزب الذي ذهب للقتال في ساحات مترامية دفاعاً عن محوره، من سورية الى اليمن مروراً بالعراق، لن يسلّم بعودة الحريري ومحوره الى السلطة، وكأن شيئاً لم يكن».

ومَن يدقّق في المعطيات التي رشحت عن «الأسباب الموجبة» التي دفعت الحريري الى ترشيح فرنجية بـ «مبادرة جدية وغير رسمية»، واعتبار زعيم «المردة» التفاهم مع القطب الأبرز في «14 آذار» فرصة ثمينة لوصوله الى الرئاسة، يكتشف ان «براغماتية» الطرفيْن التي قامت على محاولة اجتراح تسوية لا تضمر إحداث تغييرات في التوازنات التي تدير الحكم، اصطدمت بـ «لا» شبه حاسمة من «حزب الله» الذي بدا من الواضح أنه يربط عملية الإفراج عن الرئاسة بالاتفاق المسبق على سلّة متكاملة من الحلول تشمل إضافة الى الرئاسة، الحكومة (رئاسةً وتوازنات وتركيبة) وقانون الانتخاب الذي تتحكّم طبيعته بما سيكون عليه البرلمان المقبل.

(الراي)

السابق
الأبيض يغطّي لبنان: الأوصال مقطوعة
التالي
اعدام الشيخ النمر في صراع النفوذ بين وليّي العهد