إنتخابات مقنَّعة

“محاولة” إنتخاب رئيس جمهورية للبنان في الأيام الماضية جرت على طريقة مسرح الأقنعة، الإغريقي القديم، التراجيدي-الكوميدي: “المبادرة” التي أطلقت “المحاولة”، بدأت بإشاعة، ثم تأكدت شيئا فشيئاً، لتصبح علنية، حتى بلغت ذروة في الكلام. فإضطر أصحابها للقول انها، حتى الآن “غير رسمية”، “غير ناضجة”، وهم يعملون الآن على إستوائها. (أول ثلاثة أقنعة).

لم يتوقف السؤال، خلالها، أي “المحاولة”، عن سرّها، عن داعميها، الإقليميين خصوصاً. يترقب فضوليوها كلمة من سفارة هنا، أو من “مبعوث” هناك. فيما يلتزم طرف حاسم فيها الصمت المطبق حيالها، متسلحاّ بالكتمان، حماية لموقفه الحقيقي منها (قناعان اضافيان).

مؤيدون لـ”المحاولة” الإنتخابية يتوقعون ان الدماء سوف تسيل لو لم تنجح، ويعملون حثيثاً على إقناع رافضيها عبر تقديم مغريات، من نوع انتخابي، يؤمّن ديمومة حكمهم لطوائفهم. ذلك انه، بدل أن تكون التحالفات قاعدة الإنتخاب، صارت واحدة من نتائجه. “المحاولة” ضربت التحالفات السابقة، التقليدية، فنشب الخلاف بين الحلفاء، وساد الكلام عن “طعنة في الظهر” (مثل “طعنة” أردوغان لبوتين): بعضه علني، بلغ “ناشطي” مواقع التواصل، وبحدة غير معهودة؛ وبعضه الآخر سري، متناغم مع نهج “التقية” المعتمد عند الحاجة إلى الإخفاء (أكثر من ثلاث أقنعة).

اقرأ أيضًا: همروجة ترشيح فرنجية…هل تخفي قطبة مخفيّة؟!

هكذا، يكون الغرض الحقيقي لـ”المحاولة” هو أن ينتخب السياسيون بعضهم بعضاً، لا أن ينتخبهم الممثلون المفترضون للشعب، الممدَّد لهم أصلاً. “المحاولة” لا تقولها صراحة، لا تقول بأنها بصدد انتخابات ذاتية، فوقية، لا علاقة لنا، نحن المواطنين بها، لا نمارس فيها أي دور؛ هي انتخابات تحاكي نفسها. أصحاب الأدوار فيها، الكبار منهم والصغار، يتعاملون منذ دهر مع التعطيل والفراغ، والإنتظار، خرق القانون والدستور. لذلك يتعاملون مع “المحاولة” وكأنها من صميم العمل الدستوري القانوني (قناعان من النوع السميك).

قال معلقون بأن “المحاولة” آتية من أقاصي دولتين إقليمييتين. لكنهم اختلفوا في تحديد دوافعها العميقة؛ “جناح” قال بأنها ولادة طبيعية لهزيمة هذا المحور الإقليمي، والآخر قال العكس تماماً، أي انها ترجمة لهزيمة المحور الذي يدّعي الإنتصار. ثم تشتد “التحليلات” بُعداً وتعقيداً: من ان “المحاولة” هي إرادة هذا الجناح الحاكم أو ذاك في الدولة الإقليمية، فيخيل إليك بأن “المحاولة الإنتخابية” قادمة من أغوار مظلمة، من عرين خفافيش، يستحيل عليها الضوء (قناع إقليمي بألف قناع).

أما كافة المعلقين، فيتبعون السياسيين في لغتهم أيضاً: لا يكتفي هؤلاء برمي تصريحات، “يصححونها” في اليوم التالي، “منعاً لأي تأويلات” لمواقفهم. فهذه “المواقف” يمكن منحها كل الأوصاف إلا الشفافية، تبعث على شروحات شتى، تقتضي “التوضيح” دائماً. لكن قاموس المعلقين والسياسيين يتجاوز التوضيحات الضرورية؛ انه قاموس يكشف عن الأقنعة. إليك بعض مفرداته اللامعة: “التسريبات”، “الكواليس”، “التبصير”، “الضرب بالمنْدل”، “الغيب”، “فتح الأوراق”، “خلط الأوراق”، “كلمة السرّ” الخ. هي مسرحية الأقنعة، التي لا تتجشم عناء إخفاء “لعبتها السياسية”، كما تقول عن نفسها؛ مسرحية مملّة، تبتغي التشويق، فيما تبعث على الشعور بأن هناك تكراراً ما، بأن جاذبية الأقنعة تكمن في جدّتها، لا في أُلفتها (أقنعة الكلام).

منذ 37 عاما، جرت إنتخابات رئاسية، ترشّح فيها سليمان فرنجية، جدّ صاحب الحظ السعيد بترشيحه في “المحاولة” اليوم، وسميّته. كانت إنتخابات جذّابة، فاز سليمان فرنجية، ضد إلياس سركيس، بفارق صوت واحد، وبعد مساعٍ حثيثة قام بها لإقناع نائبين من منطقته، غير ممدَّد لهما، بالتصويت له. أما اليوم، فوصلنا إلى حال صرنا ننظر فيها الى “مبادرة” غامضة غموض الأقنعة الإغريقية، بصفتها إنقاذاً لنا، وما عداها فالجحيم، وبصفتها من أصول “اللعبة الديموقراطية”. ماذا حصل لنا، نحن المواطنين “العاديين”، لكي نتحول من ناخبين إلى متفرجين على من يصوِّتون من دون نيابة عنا؟ يتفوقون على مسرح الأقنعة بعدد الخدع البصرية واللغوية، ويفشلون، فوق ذلك، في حكْمنا؟

(سؤال بديهي آخر: هل في برنامج المرشح “المحظوظ” للرئاسة بند ما، نقطة ما، تتعلق، على الأقل،  بالنفايات؟)
(المدن)

السابق
انجيلا ميركل… «شخصية سنة 2015»
التالي
التحكم المروري: جريح صدما على أوتوستراد الصياد