من حي السلم الى الحمرا…وحلم بروس لي الذي لم يتحقق

كطفلٍ صغير جرّني أبناء خالتي من حي السلّم الى شارع الحمرا. كنتُ في الرابعة عشرة من عمري عندما إنتقلنا بسيّارة سرڤيس من موقف حي السُّلّم الى هناك، وأنا أنظر مدهوشاً عبر زجاج السيارة الى كلّ الإتجاهات، بإنتظار الوصول الى ذلك المكان الممتلئ بدور السينما والمطاعم والمحلّات. عبرنا ببطء الى هناك، في منتصف الطريق قال لي أحدهم، بأن هذه هي " الكولا "، نقطة صعود ونزول الرّكاب من العاصمة وإليها.

“كولا” كلمة تترد دائماً على مسامعنا في جرجوع وتلفظ بالـ ” الكولي “… إزدادت دهشتي أكثر عبر مشاهدة كثافة السيارات والباصات والصراخ وبائعي القهوة والسجائر… ترجّلنا في الحمرا وما أزال أنظر الى البيوت العالية التي كنتُ أسمع في القرية بأنها تسمّى بالبنايات.

اقرأ أيضاً: شارع الحمرا وعمى الألوان..

كان ” بروس لي ” الحاضر الدائم في خيالي. هم، وفي زياراتهم الأسبوعية الى القرية، كانوا يحدثوني عن مهاراته في الكاراتيه ويحاولون تقليد حركاته والأصوات التي تصدر عنه عندما يبدأ هجومه الساحق على الأشرار، حتى أن أحدهم يوماً ركلني على بطني وهو يقول: هذه إحدى حركات بروس لي في الهجوم. سمعت ذلك وأنا أترنح ومن ثم أسقط أرضاً من أثر ألمٍ رافقني بعدها لأيامٍ وأيّام. قال لي بأن هذه حركة جديدة من حركات بروس لي، كان تعلّمها في آخر فيلم سينمائي شاهده.

سينما البيكاديلي كانت هدفنا. تلك السينما كنت قد سمعت اسمها آلاف المرّات في القرية… قال ابن خالتي: “انشالله يكون اليوم في فيلم كاراتيه”… سمعت ذلك وغمرتني فرحة كبيرة: “وأخيراً في البيكادلي… أخيراً سأرى وبأمّ عيني بروس لي الخارق…” تذكرت ألم تلك الركلة على بطني وتفقدّت بأصابعي مكان سقوطها العنيف، ولكنني لم أحزن… جلوسي على مقعد في داخل القاعة صار واقعاً، ولا همّ، فأنا أيضاً، وبعد مشاهدة ما سأشاهده، فإنني سأتحول الى لاعب كاراتيه، أقلّه أمام أصدقائي القرويين الذين لم يستطيعوا زيارة بيروت وتفاصيلها.

شارع الحمرا

لم تفارقني الدهشة من كلّ شيء كان أمام ناظري… هكذا إذاً تكون المدن… هم يتحدثون بأشياء لا أفهمها عن أسماء مطاعم ومحلات تجارية، وأنا أتفقد نفسي وأقارنها بالمارّين الغرباء، وأحاول أن أجد فيهم أشياء تشبه ما أنا عليه.

” اليوم ما في كاراتيه.. هالشنص” قال أحد أقربائي… أنا تظاهرت بعدم الإكتراث، ولم أصرّح عن حزنٍ أصابني وأوجعني أكثر من تلك الرّكلة بمرّات ومرّات.

شو بدنا نعمل ” سأل الآخر… أنا حاولت إقتحام المكان لأتمكن من النظر قليلاً الى الداخل… ثمة لوح زجاجي كبير، كان أحدهم قد نظّفه بعناية، لم ألحظه… إرتطمت به بقوة وسقطت أرضاً… ألمٌ في أنفي وجبيني أكاد أشعر به لغاية اليوم.
تمشّينا قليلاً في ذلك الشارع، الذي ما زلت أحبه الى اليوم… هم يملكون فرصة أخرى لمشاهدة الفيلم الجديد، وأنا سأعود الى قريتي البعيدة… أحببت أن أصرخ في وسط ذلك الشارع: من منكم، يا أبناء المدينة، بقادر أن يجعل الحجر يمشي على سطح الماء… نحن نحمل الحجر الصغير قرب المياه الراكدة في النهر، ننحني الى مستوى سطح المياه ونرمي الحجر بقوة، لنجعله يقفز عدة مرات على تلك المياه قبل أن يغرق… حتى بروس لي لا يستطيع ذلك…. من منكم يرمي حبة خوخ حمراء الى عمق يصل الى خمسة أمتار ويغطس لينتشلها من هناك… كلّ المدينة لا تستطيع ذلك، حتى بروس لي لا يستطيع ذلك… كادت دمعة تسقط على خدّي وأنا أتفقد أنفي وجبيني…

اقرأ أيضاً: مبدعتان من بلدة «جرجوع» الجنوبية فازتا بالجائزة الفرنسية للقصة القصيرة

لا أكره المدينة ولا أحبّها، ولكنني بالتأكيد لا أستطيع أن أنتمي الى هناك!

السابق
شهيدان من الجيش و11 مصابًا في حادثي سير في الجنوب
التالي
أمريكا تعرض 5 ملايين دولار لقاء معلومات عن «أمير حدود» داعش.. السعودي طراد الجربا