عصر الانحطاط الماروني

محمد علي مقلد

الحوار الماروني في موضوع رئاسة الجمهورية إن دل على شيء فعلى أي درك بلغته المارونية السياسية، فهي تعلمت من الحرب الأهلية الدرس بالمقلوب. لم تكتف باستدراج الأعداء والأشقاء وبيع السيادة، فها هي تتبنى آليات بالية، مستعارة من لجنة الترشيحات في الأحزاب الشيوعية ومن استفتاءات النظام السوري على مرشح الحزب الوحيد. السلطة ترشح والويل والثبور لمن يعترض. إما أن تنتخبوا ميشال عون أو لا انتخاب. عرض مذل للموارنة وللبنانيين وللديمقراطية. من شارك في الرد على هذا العرض، حتى بعدم الموافقة، هو شريك في تحقيرنا. حتى نحن الذين أحجمنا عن قول الحقيقة الجارحة شركاء في إذلال أنفسنا، لكن، آن أن نخرج من صمتنا لنصارحكم.

نحن أيضاً لنا شروطنا ومواصفاتنا للرئيس العتيد. نحن الخارجين على معاييركم الضيقة وحساباتكم الوضيعة، المعترضين على تحويلكم وطننا الجميل إلى ساحات نفايات، وعلى بيعكم السيادة الوطنية في الأسواق الأجنبية. نحن اللبنانيين الذين نزلنا إلى الشوارع في الحراك المدني لنوقف مسيرة فسادكم، ولم نرفع غير العلم اللبناني، ولم نطالب بإسقاط النظام بل بإسقاطكم أنتم وبتطبيق النظام واحترام الدستور، نحن أيضاً لنا معاييرنا في اختيار الرئيس، لأنه رئيسنا وليس رئيساً للمسيحيين ولا رئيساً الموارنة. آن أن نصارح المتساجلين والمتناقشين والمتفاوضين أن بعض الكلام الذي يتداولونه حول الرئيس القوي أجوف فارغ خال من المعاني، وأن بعضه مطروح للمناورة فحسب. المضحك المبكي أن المارونية السياسية التي تحولت إلى ألعوبة في يد القوى الاقليمية، ارتضت أن يكون مرشحها مادة للمناورة، ثم صدقت نفسها أنها شريك في التفاوض، وهي لم تنتبه إلى أن ما يجري ليس تفاوضاً بل دعوة للاذعان.

كان مشروعها قد بلغ ذروته حين قررت تشويه معنى السيادة الوطنية وعملت على حماية لبنان من “الغرباء” وها هي تختتمه اليوم بالبحث عن الاستتباع لأسوأ الغرباء. أما نحن فمعيارنا مختلف. نحن لا نرضى أن يكون المرشح ألعوبة ولا مادة للمناورة. حين تناقش المارونية السياسية في مواصفات الرئيس، ترى أن للموارنة وحدهم حق التسمية، وليس لسواهم إلا المباركة فحسب أو المصادقة على اختياراتهم. لم تتعلم من نتائج حربنا الأهلية ولا من الحروب المحيطة، أن الأوطان الحديثة لم تعد تحتمل أن تكون حكراً على دين أو طائفة أو عرق، وأننا محكومون باحترام التنوع والتعدد. نحن أصحاب المواصفات والمعايير المختلفة نعلن أنه، لولا حرصنا على خصوصيات تاريخنا اللبناني، ولولا خوفنا من أن يتحول نظامنا الديمقراطي إلى جحيم داعشي ، أو أن يصير وطننا الجميل امتداداً لطورا بورا، لكان علينا أن نلغي من معاييرنا في اختيار الرئيس انتماءه الماروني، وأن نحصر مواصفاته بصدق التزامه باحترام الدستور. لكن هذه المخاوف كلها لا تساوي خوفنا الراهن من تردي اختيارات الموارنة ووصولها في هذه الانتخابات بالذات إلى الحضيض. بمعاييرهم، على المرشحين أن يكسبوا رضى الكنيسة، وعلى الكنيسة أن توفق بين المرشحين ومراكز القوى، حفاظاً على وحدة الصف المسيحي، وظناً منهم جميعهم أن في ذلك مصلحة للموارنة وللوطن.

الموارنة

ولم تعلمهم الحرب أن المؤسسة المارونية، السياسية (الحلف الثلاثي)، والعسكرية( قيادة الجيش والمخابرات) كانت أحد أسباب انهيار أول تجربة رائدة في بناء الدولة الحديثة، وذلك بفعل تعصبها المذهبي وحقدها على الرئيس الماروني فؤاد شهاب واتهامه بالعمل على أسلمة الدولة. بمعاييرنا نحن، لا نرضى للمرشح أن يتمسح على أعتاب المؤسسة الدينية، إسلامية كانت أو مسيحية، لأن في ذلك تشويها لدور رئيس الجمهورية ورؤساء الطوائف على حد سواء. وبمعاييرنا، لا تكون المقامات الدينية محترمة إن هي زجت نفسها، أو إن زجها المرشحون في أتون السياسة ومفاسدها الدنيوية. بمعاييرهم أبيح الحوار بلغة ومصطلحات دينية ومذهبية، وصار من المألوف في الخطاب اليومي وفي السجالات الاعلامية التداول بمفردات ممجوجة كالمجتمع المسيحي والشعب المسيحي، والمصلحة الشيعية والمناخ السني، وبلغت بهم الوقاحة حد الجهر بهذه المصطلحات على المنابر الاعلامية والشاشات ومكبرات الصوت. بمعاييرنا نحن، لم يعد ممكنا أن ينهض لبنان من دماره بلغة البذاءات السياسية و المحاصصات والانقسامات المناطقية والاعتبارات الضيقة.

بمعاييرنا نحن، لم يعد يليق بوطن عصي على كل محتل، صديقاً أو عدواً، أن تتناوب على الترشيح أسماء نكره. ولم يعد يليق بنا أن نتغاضى عن تشويه تاريخه وقامات سياسييه من رجالات الدولة الكبار، من أمثال بشارة الخوري ورياض الصلح وفؤاد شهاب ورشيد كرامي وشارل مالك وكمال جنبلاط وعادل عسيران وصبري حماده. وطن يليق بأجياله وبكفاءاته وتليق به هو ذاك الذي يستلهم تلك القامات ولا يتراجع عنها ليختار من بين عجزة السياسة ولا من مراهقيها ولا من تجّارها ولا من فجّارها.

(المدن)

السابق
الجنسية الأميركية لابن شبعا رند غياض..
التالي
الفلسطيني القادم من الغرب.. محررا القدس!