عن «أشرف الناس»

إيلي القصيفي

في اليومين الماضيين رفع سائقو الشاحنات في كسروان المعترضون على عدم السماح لهم بنقل الرمول من جرود المنطقة لافتة كتبوا عليها “نحن أشرف الناس في دولة العار”.. هكذا يتواصل سجال “التفاوت الشرفي” بين المناطق والجماعات اللبنانية عن بعد. فمنذ الخطاب الشهير للسيد حسن نصرالله في “مهرجان الانتصار” في العام 2006، والذي خاطب جمهوره فيه بعبارة :”يا أشرف الناس..”، نسمع بين الحين والآخر هذه العبارة سواء في أوساط حزب الله أو أوساط أخرى. كأنّ هذه العبارة في علانيتها الرمزية وفي توقيتها، أشرت، عن قصد أو من دونه، إلى بداية زمن جديد من “الشقاق اللبناني”، كان هذه المرة أعمق وأكثف من ذي قبل، وإن بقي عنفه “مضبوطاً” نوعاً ما.
لا نعرف قصد السيد نصرالله من إيراد هذه العبارة في خطابه. غالب الظن أنّ قصده كان التعبير عن الامتنان والتقدير لجمهور الحزب الذي دفع، أكثر من سواه، أثماناً غالية من دمائه وماله في حرب تموز. لكن مع ذلك أخذت العبارة منذ لحظة اطلاقها دلالات ومعاني أخرى، خصوصاً أنها أطلقت في لحظة لبنانية حرجة بلغ الانقسام السياسي والأهلي فيها مداه الأقصى، وأخرج كل جمهور ما في جعبته من أدوات التعبئة ضد خصمه. لذلك يصعب ربطها في لحظتها الأولى دائماً، ولا بد من تناولها في السياق الانقسامي والتعبوي المستمر بأشكال مختلفة. وهنا خطورتها، إذ أسست لـ”تراتبية شرفية” يصورها كل شخص على ذوقه، بحيث أصبح ممكناً لأي شخص أن يعتبر نفسه وجماعته أشرف الناس والآخرين دونهم!

السيد حسن نصرالله
خطورة منطق “يا أشرف الناس” أنّه يضرب فكرة الدولة، أي الأطار الناظم للاجتماع البشري بالقانون، من أساسها. فعندما يصبح الناس مراتب في بلد ما يتقوض القانون ويفقد مبدأه الأساسي، إذ لا يعود “التعبير عن الإرادة العامة”، والذي يفترض أن يراعي المساواة بين المواطنين من حيث منطلقاته ومبدئه. بذلك تحيلنا “يا أشرف الناس” إلى البنى الاجتماعية ما قبل الدولة، نظرياً وعملياً. أي أنها تنسف فكرة “العقد الاجتماعي” كما تبلورت في “عصر الأنوار” برمتها، وبالتالي تعيدنا إلى عقود “النظام القديم”، حيث كل جماعة تسعى لـ”الاكتفاء الذاتي” وتشعر أنها بغنى عن الآخرين، أو تقبل بالعيش معهم بشروط تحفظ لها “أسبقية شرفية” ما.
لقد تحدث الرئيس السابق ميشال سليمان في حمأة السجال حول “المعادلة الذهبية/ الخشبية” عن “قيم مشتركة” بين اللبنانيين. وقتها بدا كلامه خارج السياق أو مثالياً جداً. لكن التفكير في ما قاله يحيلنا إلى حقيقة أنّ احتمالات “العيش معاً” في بلد ما لا تستقيم أو لا تنوجد من دون حد ادنى/أعلى من “القيم المشتركة” بين مجموع سكان هذا البلد. وهذه قيم لا تفسّر كلها ولا تحدد جميعها في الأطر الدستورية والقانونية، إذ يبقى الكثير منها في إطار الأعراف المتوافق عليها أخلاقياً. ومن هذه الأعراف مراعاة “الحياء العام” بمعناه الاجتماعي، بحيث تحسب أي جماعة حساباً، في تعبيراتها وسلوكياتها، لشروط العيش مع جماعات أخرى.
ومعروف أن “التشاوف الشرفي” غير مقبول في المجتمع اللبناني، ويستحي الناس في التعبير عنه، وإن أحسّه بعضهم في قرارة نفسه، وبحسب قيمه، لدواعي النسب وما إلى ذلك من انتماءات أولية. وهذا ترسّخ مع الوقت بعد تقويض “النظام القديم” والدخول في الحداثة السياسية والاجتماعية. لذلك ليس أخطر على الاجتماع اللبناني من منطق “أشرف الناس”، وهناك ضرورة لإسقاطه من الخطاب العام. لكن كيف؟ ومتى؟ الأكيد أنّ الأمر سيأخذ وقتاً ومرهون بوقوف الدولة على رجليها، لكن قبل ذلك مرهون بإعادة الاعتبار لـ”الحياء العام” أي باقتناع كل جماعة بأنها لا تعيش وحدها في البلد!

(المدن)

السابق
فارس كرم.. لا أنكر أنني كنت مدمن على المخدّرات
التالي
واشنطن تودع العرب وتستقبل الايرانيين