أين بشار الأسد وأين المناعة الوطنية؟

منذ بداية حملة القصف الروسي على سوريا اختفى بشّار الأسد. واختفاء الـرجل ليس حدثاً، لأنه منذ بداية انهيار جيشه في إدلب، وهو لا يظهر إلا ليختفي. لكن اختفاءه هذه المرة، في لحظة حدث مفصلي، يتمثل في دخول الجيش الروسي طرفاً في الحرب السورية، يثير أكثر من سؤال. فالروس الذين أتوا بعدما تبين محدودية قدرات التدخل الإيراني بأشكاله المختلفة وميليشياته المتعددة، يعلنون اليوم إفلاس الحلف الإيراني في حماية نظام الاستبداد، وحاجته إلى تسليم القيادة لطرف جديد، كي يعبئ فراغ الانهيار.
بشّار الأسد يعلم أنه مجرد دمية، وأن الدمى لا تحكي إلا بصوت محركها، وهو يتلقى اليوم دروساً كي يتعود على الصوت الروسي بعد سنوات من التدريب الإيراني.
بوتين يحلم بدولة القياصرة ممزوجة بالوزن الذي كان يحتله الاتحاد السوفييتي «الجبار» على المستوى الدولي. لكن فاته أن دولة القياصرة دالت، ولا تنفع صلوات بعض معتوهي الكنيسة الروسية لإحيائها، كما أن النفوذ السوفييتي نشأ كحامل لفكرة أممية قبل أن يطيح الاستبداد بالفكرة وبالتجربة السوفييتية برمتها.
فليحلم بوتين كما يشاء، السؤال ليس موجهاً إليه، بل إلى لحظة فقدان المناعة الوطنية التي تعيشها سوريا بشكل مأسوي. السؤال الحقيقي هو المناعة الوطنية وليس خرافة «الممانعة»، التي لم تكن أكثر من وسيلة لرفد الاستبداد البعثي – الأسدي باستبداد ديني.
لقد اختبر الشعب اللبناني طويلاً معنى فقدان المناعة الوطنية، حين قامت البنى الطائفية بتحويل لبنان إلى ساحة للصراعات الإقليمية، وحيث عبثت بأرضنا جيوش لا عدد لها، وانتهينا تحت مظلة نظام الاستبداد السوري.
لا شك أن ضباط وقادة الجيش والمخابرات السورية يعلمون جيداً معنى أن يقوم جيش أجنبي بإحتلال و/أو إدارة الحرب في بلد آخر. يعلمون لأن ممارساتهم الإذلالية في لبنان كانت عنوان هيمنتهم. وعليهم اليوم أن يمروا بتجربة إذلال مماثلة، مهما قيل عن التحالف الاستراتيجي بين أربعة زائد واحد (روسيا، إيران، العراق، سوريا وحزب الله).
هذا الواقع له اسم واحد هو فقدان المناعة الوطنية، ولا يعقب هذا الفقدان سوى انهيار الأوطان. الجواب الروسي – الإيراني – السوري على هذا الطرح سوف يلقي التهمة على الآخرين، ويتهم «داعش» و«النصرة» وتركيا ودول الخليج، بأن بداية فقدان المناعة الوطنية بدأ بسبب تدخل هذه القوى العلني في الصراع السوري.
هذا النوع من المحاججة يقود إلى تحويل الكلام لغواً، لأن جوابه جاهز، فلو لم يلجأ الاستبداد إلى إبادة المظاهرات وسحق الانتفاضة الشعبية الكبرى ضده، لما وصلت سوريا إلى هذا المنحدر المخيف. ولكن هذا الجواب هو مجرد لعب كلامي أيضاً، يحاول رتق عجز المعارضات السورية عن تحمّل مسؤولية عسكرة الصراع، أو التنبيه إلى مخاطر هذه العسكرة. كما أنه لا يعفي قوى المعارضة من مسؤولياتها وارتمائها في أحضان القوى الإقليمية والدولية، التي رأت في الإنفجار السوري مناسبة لتحطيم سوريا وعرقنتها وإذلال شعبها.

نصرالله بشار الاسد
لقد قاد الاستبداد سوريا إلى الوقوع تحت الاحتلال، الاحتلالات تمتد من اللاذقية إلى الرقة، وتتصرف وكأن الوطن السوري غير موجود، والبلد مجرد ساحة. ولعل التعبير الأكثر وضوحاً عن رؤية سوريا كساحة هو مقال الصحافي الأمريكي توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» الذي يدعو فيه الإدارة الأمريكية إلى الاكتفاء بمشاهد أفغنة سوريا، واستنزاف روسيا على الأرض السورية!
«الأفغنة» بعد «الصوملة» و»العرقنة»، هل هذا هو مآل حلم الحرية الذي غطى سوريا بدماء أبنائها، في واحدة من أنبل انتفاضات الشعوب في التاريخ المعاصر؟
هل يتلقى السوريات والسوريون ومعهم كل عرب المشرق درس ثمن الحرية موتا وسجونا وإبادات وتشريدأً؟
كأننا في كابوس، بل نحن في أفدح لحظات الكابوس الذي نعيشه في اليقظة وليس في المنام.
يجب وضع الأمور في نصابها رغم كل العتمة.
النصاب يقول إن سوريا اليوم تحت أكثر من احتلال، وإن مقاومة الاحتلالات جميعها هو شرط استعادة المناعة الوطنية.
نبدأ من فهم طبائع الاستبداد، كما علمنا الكواكبي، فاستبداد الطغمة المافيوية التي أسسها حافظ الأسد، قاد إلى استبداد الطغمة التكفيرية التي تأسست على أيدي «المجاهدين الأفغان» وأسيادهم واجتاحتنا من خلال ورثائهم في سوريا والعراق.
العلاقة بين الاستبدادين معقدة، كلاهما يلجأ إلى الأصول، ويدمر الحاضر باسم الماضي، كلاهما بعثي بمعنى ما، وكلاهما لا يقيم وزناً لمعنى الأوطان، ومستعد للارتماء في أحضان القوى الخارجية.
عشنا في لبنان نسخة مخففة من التجربة المريرة لانهيار المناعة الوطنية، وعلى الرغم من النهاية الرسمية للحرب الأهلية، فإننا لا نزال نتخبط بحثاً عنها، ولعل التحرك الشبابي – الشعبي هو بداية الطريق الطويل إليها. كما تعيش فلسطين المحتلة شكلاً آخر لهذا الانهيار مع الانقسام وعجز القيادة وانهيار القيم. ولعل مقاومة القدس هي مؤشر على احتمال الخروج من هذا المنزلق.
غير أن الانهيار السوري هو الأكثر خطورة، فسوريا هي قلب المنطقة ونبضها، ومن دون بناء مناعتها الوطنية فإن فلسطين ولبنان سيبقيان تحت المقصلة.
منذ العام 2003، والمشرق يعيش في «عاصفة صحراء» تتجدد بتغير اللاعبين، حطم الأمريكان العراق وتركوه للفراغين الأصوليين: الإيراني والداعشي، والآن جاء الروس ليكملوا اللعبة.
لكن اللعبة ما كان لها أن تتخذ هذه المسارات الوحشية لولا أنظمة الاستبداد، التي صنعت سابقة استباحة الأوطان وإذلال الناس، ما سهّل المهمة على القوى الخارجية التي لا تخفي طبيعتها الهمجية، وانجرارها إلى حماقات القوة.
واللعبة معقدة، بعد تنمّر بوش الإبن جاءنا تنعّج أوباما الكاذب وتطوّس بوتين المضحك. وبعد «القاعدة» وهمجية الزرقاوي، جاءنا البغدادي بهمجية الصورة ووحشية إبادة الأقليات، وجاء الحرس الإيراني و»حزب الله» بخطاب الحرب المفتوحة ومشاريع الاجتياحات.
صارت بلادنا مسرحاً لحرب الهمجيات، وطُرد أهلها من المعادلة، وفُقدت المناعة الوطنية. ولن تبدأ رحلة الخلاص من المذبحة المفتوحة إلا عبر استعادة الناس لمصيرها بعيداً عن الأيديولوجيات القيامية المجنونة، وعلى أنقاض الاستبداد والاحتلالات.

(القدس)

السابق
تغيير جذري في رئاسة وأعضاء اتحاد «الفيفا»
التالي
افتتاح المعرض الأول للفنانة التشكيلية لمى رباح في باريس