الإيقاع الوحيد الذي استفاق في نفس جهاد الزين بين شهقة الموت وشهقة الحياة هو إيقاع الشعر. الأمر حقاً يدعو الى النظر. أعني أن يكتب قصائد ديوانه الأخير «شلل مستطير» (دار الجديد2015)، وهو تحوير طفيف للقول الشائع شرر مستطير، انطالقاً من غرفة العناية الفائقة ومتى ؟ في اللحظة، تلك اللحظةالرهيبة، اللحظة الغريبة، اللحظة التي بين الحياة والموت، وفي البرزخ تماماً بين بحرين. ذلك لا يعني أن هذا الشعر هو ابن اللحظة تلك وحدها، إنما يعني أن الشعر انفجر في اللحظة الحرجة. فغرفة العناية الفائقة نستطيع أن نوسعها ونعطيها تعريفاً للحياة بكاملها. واستفاقة الشعر في غرفة العناية الفائقة يمكن أن تعطى كتعريف جديدوإضافي للشعر، ويمكن أن تكون مديحاً له، في وقت تتآزر أفكار كثيرة هنا وفيالعالم لقتله أو علىالأقل لطرده من الحياة المعاصرة. فهو بذلك يكتسي ريشه الأخضر الجديد على أنه غناء ضد الرعب مثالاً كاحتمال من احتمالات تعريفه، أو على أنه إطالة اللحظات المقصوصة الجناح أو أنه استئناف (بعد الموت) لتفاصيل الحياة لا كذكرى طللية، بل كاستئناف لها لا ينقطع بالقبر أو بالدفن أو بما يشبه ذلك من النوم أو الغيبوبة.
يوميات وغنائيات
نفتح على الصفحة 35 من الديوان، ونقرأ القصيدة المسماة «المقهى»، وهي تصور موعداً يضربه الشاعر لأصدقائه بعد ساعتين من موته في مقهى يختارونه ليستأنفوا جدالهم في الموت والدين والسياسة والشعر والجنس واالقتصاد. وليطرح عليهم سؤالاً يلح عليه حول كوب قهوة أو كأس شاي: « لماذا يكون الضريح أنيقاً \ وماذا على الميت أن يرتدي في احتفال المساء المديد الوحيدالذي دخله؟». إنه يضرب لهم موعداً في
المقهى، ولكن بعد أن يكون جناز دفنه قد انتهى، وغادروا بعد تقديمهم العزاء. هذه هي المفارقة التي صنعت القصيدة. كتب مالك بن الريب يأئيته المشهورة بعد أن لدغته أفعى، وأحس بخدر الموت يمشي في أطرافه. وكتب محمود درويش«جداريته» وهو في برزخ الغيبوبة في المستشفى. وكتب أمل نقل تجربته في مواجهة السرطان في«أوراق الغرفة7». في القصائد المذكورة، التي تستأنف الحياة بعد الموت استئنافاً دينياً، بل هو استئناف وجودي أو تأملي إذا صحت العبارة. جهاد الزين في قصيدته ممتلىء بالتفاصيل.
قصائد الجزء الأول من الديوان، وهي عشروننصاً وواحد، صغيرة لا يتجاوز النصمنها الصفحة وغالباً ما ينقصعنها، وبعضها الصفحتين. وهي مكتوبة على الأرجح، في المستشفى وتظهر بصورة يومياتها متأتية من أوزانها ومن إطباق اللون األصفر عليها كإطباقه على المقدمة «سيرة ذاتية بالأصفر».
لا نقول ان الشاعر في المستشفى، في المقدمة وفي النصوص، يغادر إلى مكان آخر «بل ثمة هنا في العناية الفائقة، استفاقة حياة الشاعر وسيرته على عريها … من الحب وعرس الشام ورغدا إلى السهو والأولاد بأسمائهم إلى حارات دمشق العتيقة … حتى بعض روائح الحرب». انسياب معظم النصوص على نواة الرمل «فاعالتن» يجعلها خفيفة الطيران أو قريبة الأوبة كحمام دمشق. لكن نواة الكامل وهي مستفعلن ومن جوازاتها متفاعلن تستدعي، إلى الحنين، غنائية الحكمة كما في نص «نخلة عبد الرحمن الداخل» حيث تطل الجملة الشعرية بأنينها الداخلي وبعمق مقارنتها بين منفى ومنفى.
وهنا، في هذه النصوص الموزونة المختصرة، تستطيع أن تفتح على الصفحة 49 من الكتاب، لتقرأ قصيدة أخاذة في الحب على المحدث، حيث في «حارات عتيقة» دمشقية، يغطي الشاعر «رغدا» بالقلق الرغد (كما يقول) ويلبسها كقميص من ماء. يلبسها حتى «تخضر نواياه». القصيدة الرابعة هي بعنوان «الأصفر». وهو لون القصائد بعامة ولون المقدمة ولون المستشقى ولون الحياة. ففي صفحة واحدة تتوالى تسع جمل شعرية تنطوي على 13 صفة وتسمية للون الأصفر … وهذا الإلحاح اللغوي الاصفر ومشتقاته، في المجال الضيق، يجعل القصيدة أقرب ما تكون إلى أصفر الرسام فان غوغ في دوار الشمس. أصفر قصيدة جهاد الزين هنا هو ذئبي وفاتك في األصول ويدمج البدايات والنهايات. «إنه الأصفر الصفر الذي …» هو الموت. وهنا شبه مدخل لتقنية بعض القصائد، في القسم الأول الموزون والحر من الكتاب… لناحية بعض الزواجات الإيقاعية واللغوية.
لا ريب أن جهاد الزين لم ينشر كثيراً من الكتابة الشعرية فكل ماله قصيدة أولى بعنوان »قصيدة إسطنبول» (دار الفكر الحديث 2002) وكانت إشارة (حينذاك)منا لجمل شعرية تومىء لشاعر قادم. وما سكت جهاد الزين ثلاثة عشر عاماً (ما بين 2002 و2015) عن نشر القصائد إلا لأمر ما، ضاغط بلا ريب، ولكنه بالتأكيد جوهري، لأن الشعر الذي غار في قاع نفسه هذه المدة الطويلة، وتسلى عنه بما يرغب فيه من صحافة أو كتابة أو حياة، بقي غالباً عليه وإلا فما معنى انبثاقه في اللحظة الحاسمة التي ذكرنا؟.
بياض الوحدة
بمثل هذا الإحكام الوزني واللغوي، هو عينه القادر على القول «وحيد ولست الوحيد» (من قصيدة السهو) ما يعني قدرته على إدراك الفروق المعبرة في اللغة، والمزاوجات فيها أيضاً. نعم ثمة حس موسيقي أصيل باللغة نلمسه، لناحية الاشتقاق المعبر مثالا في قوله في قصيدة «إلى رغدا»: » فال يكف عن البياض الإبيضاض«. القصد هنا هو استعمال الإبيضاض في مجاورة البياض. وهو ما يعود إليه في القصيدة التالية «صباح شتائي في إهدن» حيث يبدأ هكذا: » البيضاض الزمان وليس المكان على أرض إهدن موعظة للزمان». البياض لون ساكن. كفني. ثلجي. أما الإبيضاض فهو الحركة نحو اللون. لذلك جاء استعمال الشاعر لالبيضاض في معرض وصفه للبياض استعمالاً توليدياً مبدعاً من حيث الإشتقاق المعبر. ذلك ينقلنا من حقل القصائد الرقم 1 إلى حقل القصائد الرقم 2 في الديوان. وهو حقل من قصيدتين على وزن البسيط موزونتين وزناً كاملا على هذا البحر، الأولى من تسعة وعشرين بيتاً بعنوان «خطفت منك التباساً» (سالة إلى أحمد بيضون) والثانية من اثنين وثالثين بيتاً مرثية إلى جوزف سماحة بعنوان «عانيت مثواك». في القصيدتين نفس شعري الكلاسيكي قوي ومسبوك بقوة لغوية تظهر في مطالع القصيدة الأولى بدءاً من عنوانها «خطفت منك التباساً» : «خطفت منك التباسا سوف أرجعه \ وسوف يا داحض الريبات أدحض . أنا وأنت أتينا من هضاب أسى جارت علينا فحرنا كيف نسكنه. هي الجهارية الخضراء مذ لمعت \ وأغرقتنا بضوء أنت تشبهه…». فمن داحض الريبات إلى الجهارية الخضراء تتحرك لغة قديمة جديدة ذات رونق وتوليد وهي معارضة على معارضة بيضون لعينية ابن زريق البغدادي (متوفى عام 1029) المعروفة ومطلعها «لا تعذليه فإن العذل يولعه – قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه» ولكن يشوب وزن بعض أبيات قصيدة الزين خلل عروضي طفيف في بعض التفاعيل المستعملة. فإذا وصلنا إلى قصيدة »عانيت مثواك»(إلى جوزف سماحة) فدرة القصيدة البيت الأخير فيها «ضاق الخناق فمشنوقاً أرى الوتد اليلفّ قلبي لا عنقي ولست أرى».