علي الديري: أردت وضع إصبعي في وجه الوحش الذي يهدّدني

علي الديري، كاتب بحريني شاء أن يضع إصبعه على مكمن الجرح، فكان مصيره النفي والإبعاد عن وطنه الأمّ. سحبت السلطات البحرينية الجنسية من الكاتب والأكاديمي والصحافي بسبب تعبيره عن رأيه بشكل واضح وصريح بلا مواربة، حسب تعبيره.

صاحب كتاب “خارج الطائفة” طرح تساؤلات حول ثنائية الخارج والداخل، الوجود خارج الطائفة وداخل المدينة والدولة والوطن، مدافعاً عن علمانية الفكر. لكنّ إلى أيّ مدى نتمكّن النفاذ فعلياً من مجتمعات تدفعنا إلى مذاهبنا حتّى إن شئنا أن نترك معتقداتنا الدينية للممارسات الخاصة؟

تجربة الديري مؤلمة وموجعة من دون شك، ليس له فقط، بل لمن يشاركه همّ رفع الهوية الإنسانية أعلى من أيّ هوية أخرى. عاد مؤخّراً الديري بمؤلّف جديد  «نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية»  صادر عن (مركز أوال للدراسات والتوثيق)، يناقش فيه الكاتب نصوصاً “متوحشة” من التراث الإسلامي ليحفر في التأريخ بحثاً عن أجوبة لمأساة الحاضر.

كان لموقع (إرفع صوتك) هذا اللقاء مع الكاتب علي الديري حول مؤلّفه الجديد وتجربته الشخصية وما يمكن القيام به لمواجهة “وحش التطرف” الذي يغزو منطقة الشرق الأوسط اليوم.

ثم سألناه: تعود في كتابك “نصوص متوحشة” إلى التأريخ والنصوص التي يستند عليها نهج التكفير. هل أزمتنا الحالية أزمة نص أو أزمة سلوك – أي لو لم يكن النص موجودًا كمسوّغ للتطرف، هل كان المتطرفون ليجدوا مسوّغاً آخر؟

الديري: نحن أساساً حضارة نص. حركتنا محكومة بمدونة من النصوص هي كتب الأحاديث. نحب بنص ونكره بنص ونتزوج بنص ونأكل ونشرب بنص ونحارب ونسالم بنص. حركات التطرف اليوم تجيد اللعب بالنصوص والنطق بها وإعادة الواقع وما يحدث فيه إلى هذه النصوص. تأمل في أفواه من يأمرون بالقتل ويرسلون مفخخاتهم إلى المختلفين معهم، ستجدها تنطق بنصوص التوحش، تقذفها وفق بوصلة التجاذبات السياسية. لا يمكن لأي جماعة أو حركة أن تنشئ خطاباً جديداً في المجتمع بدون نص يعطي لخطابها مشروعية. نحن أمة من النصوص المسيجة بالتقديس المحمي بالسياسة. الدليل هو النص وما يقتضيه، وتميل مجتمعاتنا حيث يميل طرف النص، ولا دليل خارج النص، والعقل في خدمة النص، والنص مقدم على العقل.

وسألناه: حين ندرك أنّ التطرّف أو التكفير متجذّر في مجتمعاتنا، يصبح بهذا أيضًا جزءا من تراثنا. هل تعتبر هذه النصوص تأريخا أو تراثا؟

الديري: دعنا نسأل هل صار ابن تيمية تأريخا أم ما زال موروثاً ناطقا بكل ما فيه في واقعنا. هذه النصوص ما زالت تراثاً، لم تتحول إلى تاريخ. نحن ورثة ماضٍ لا يمضي، يشبه نهراً يتدفق بالنصوص. تركتنا ثقيلة، وهناك صراع رمزي ومادي حول استملاك هذا التراث. منذ 14 قرناً لم يتوقف جيل من أمتنا عن توريث صراعاته وأنماط حياته. حين يتوقف ذلك ستكون هذه النصوص تأريخاً للتأمل والفهم. نصوص الغزالي في تكفير الباطنية والشيعة ومختلف الأقليات وتقتيلهم وسبي نسائهم مازالت تُوَرّث. ولولا هذا التوريث ما شاهدنا هؤلاء الأبناء يستخدمون هذه النصوص بحرفيتها.

سؤال: في ظلّ صعود التشدّد والنزعة للإقصاء، ما الثمن الذي دفعه علي الديري لتطرّقه إلى الموضوع؟

الديري: حالياً أنا من غير جنسية وخارج وطني، وكتابي ممنوع في بلدي البحرين، وأنا في إعلام بلادي خارج عن طاعة ولي الأمر، وخائن لوطني وغير مسموح لأي وسيلة إعلامية هناك أن تجري حواراً صحفيا معي حول كتابي. ولو كنت هناك، من المؤكد أني سأحاكم وأسجن بتهمة إهانة رموز إسلامية كشيخ الإسلام ابن تيمية، وسيضاف لها قائمة تهم طويلة، لن يكون أقلها التعريض بأهل السنة والجماعة والسلف الصالح.

سؤال: تتبعت تطوّر المفهوم التأريخي للتطرّف من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية. لماذا لم توسّع دائرة التطرّق لمذاهب وديانات مختلفة كي لا تنهال عليك الاتهامات بمهاجمة الإسلام فحسب؟

الديري: أنا لم أوسع دائرة نصوص التوحش. لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها  الفترات التأريخية كلها. ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها. هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب ظاهرة التوحش. أردت أن أضع إصبعي في عين الوحش الذي يهددني الآن. أردت أن أعري مرجعيته النصية التي يتحدث باسمها وينطق بمسلماتها. صغت فرضية ضد مسلماته التي تنص على أنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا.ً العلماء الكبار الذين عاشوا في بلاط سلطة السلاجقة هم من صاغوا هذه النصوص في سياق الحرب بين الخلافة العباسية الممسوكة بسلطة السلاجقة والخلافة الفاطمية.

علي الديري

سؤال: نسمع دائماً النداءات حول الإسلام الحقيقي وجوهره. ما هو الإسلام الحقيقي من وجهة نظرك، وهل من ضرورة لإعادة فتح باب الاجتهاد لتصويب المفاهيم الدينية؟

الديري: الإسلام الحقيقي يقدم نفسه في صيغة أرثوذكسية مفروضة من قبل سلطة سياسية، بدا في عصر السلاجقة هو إسلام الأشاعرة، أي الإسلام الذي يقدم الأحاديث والروايات ويرفض الفلسفة والتأويل العقلاني على طريقة المعتزلة. وهذا الإسلام تحول إلى سلطة سياسية تنطق باسمه، سلطة السلاجقة بالعراق وفارس وسلطة الزنكيين بالشام وسلطة الأيوبيين بمصر. والإسلام الحقيقي بدا في عصر المماليك هو إسلام السلفية على طريقة ابن تيمية وأحمد بن حنبل، ولم يجد هذا الإسلام سلطة سياسية تتبناه حتى ميثاق الدرعية في 1745م بين رجل الملّة محمد عبدالوهاب ورجل الدولة محمد بن سعود، فصارت عقيدة ابن تيمية السلفية عقيدة رسمية للدولة السعودية الأولى. وهي تقدم نفسها اليوم باعتبارها تمثل الإسلام الحقيقي.

سؤال: كيف يمكن محاربة توحش النصوص؟

الديري: يمكن محاربة الوحش في هذه النصوص بتفكيك سياقه السياسي بالدرجة الأولى. نحتاج حركة نقدية تقرأ هذه النصوص قراءة تاريخية، تبين كيف وضعت السياسية هذه النصوص في خدمتها ضد خصومها السياسيين. وهذا ما فعلته في هذا الكتاب (نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) بتفكيك السلطة السلجوقية والزنكية والأيوبية والموحدية والمملوكية. وهذا ما تعلمته من المفكر محمد أركون الذي عمل منذ فترة مبكرة على نزع القداسة عن هذه النصوص وكشف تكوينها السياسي والتأريخي، وهو أول من استخدم مصطلح الأرثوذكسية لوصف السلفيات التي تقدم نفسها تمثل حقيقة الإسلام ضد خصومها.

المصدر: (إرفع صوتك)

السابق
فيديو جديد من الأعلى يوضح لحظة التدافع بـ«منى»
التالي
نصرالله: لا نمانع الحراك المطلبي ونتمنى ان يركز على الأمور القابلة للتحقق