الحراك يحيي عِظام الدولة

الحِراك يجمع كافة اللبنانيين، كما يفترض بالدولة أن تضم، فيما نظام الطوائف يفرقهم، حتى داخل طوائفهم ومذاهبهم. وبجمعه كافة اللبنانيين، يسحب الحِراك من بساط الطوائف أفراداً، وأحيانا جمهوراً، هم القاعدة الضرورية للطوائف؛ فيضعفها، ويفرغ مخزونها البشري. الدولة تجمع والطوائف تفرق. والحِراك، من ناحية أخرى يعمل في العلَن، يطالب بحقه تحت نظر الناس والإعلام، ولا يخبىء شيئاً من ممارساته، كما يفترض بالدولة ان تفعل؛ لا كما درجت الطوائف ان تلفلف مطالبها و”حقوقها” بألف غلاف وغلاف. فيكون قمع تظاهرات الحِراك علنياً أيضاً، إذ لا سبيل لغيره.

قارن مثلا بين القمع الجسدي الذي مارسته قوى مؤسسات الدولة الرسمية، أي الأمن الداخلي، أو مكافحة الشغب، تحت عدسات المصورين، بقرار واضح، واتهامات وردود على الإتهامات، تحتوي على قدر من تلبية مطلب المحاسبة، ولو بالمكابرة… قارن بين هذا القمع، والقمع الذي مارسته ميليشيات “أمل” ضد المعتصمين؛ وهي لم تقدم نفسها رسميا، ولا حذّرت، ولا برمجت… فقط هجمت مثل القطعان، ضربت ضربتها وفرّت، وبعد ذلك أصدرت بيانا تنفي قيامها بأعمال كهذه. هذا لا يعني بأن وزير الداخلية عمل بمنطق الدولة؛ إنما يعني بأنه لم يجد أمامه، بصفته وزيراً للداخلية، إلا قوى مؤسسات الدولة الواحدة، ليقوم بعمله. خذْ مثلا آخر: منذ بداية الحِراك، وما واجهه من قمع، ولجنة الدفاع عن المتظاهرين تقوم بأنشطة، كل مفرداتها تعود إلى الدولة: تجول على المخافر، ترفع طلبات إخلاء سبيل، تسأل القاضي المختص، تقف على أبواب السجون، تدرس مذكرات التوقيف الخ. هذا القمع الذي يواجهه الحِراك على يد واحدة من مؤسسات الدولة، يُبرز بوضوح الفرق بين قمع الدولة، حتى لو كانت بيد الطوائف، وبين قمع الطوائف نفسها.

هذا الأخير، أي قمع الطوائف، هو الأشرس، الأخبث، الأخرس… ومفرداته حفظها اللبنانيون: إغتيالات، تهجير، تفجير، خطف، فدية، لفلفة، تمرير، غطاء، تسويات، ترضيات، نكايات، دائماً صغيرة… الخ. بتعبيرات كهذه، تمكنت الطوائف من الحكم، وليس بتعبيرات الحق والقانون. الحِراك، بالنتيجة، مع إحيائه فكرة الدولة، يحيي فكرة الطبقات: طبقات مسحوقة ومتوسطة وميسورة قليلا، أصبحت مصلحتها على النقيض التام من مصلحة الطوائف، المتجسدة ببارونات الفساد. والصراع الطبقي هو صراع متقدم عن الصراع الطائفي: انه صراع محكوم بالمصلحة المباشرة، لا تؤطره سوى قوانين دولة؛ على أن تكون هذه الدولة “راعية”، أي تقوم بواجباتها.

فيما الصراع الطائفي هو من ثارات الماضي، من أجل التشفّي والخراب، جلّ مفعوله هو إنهاك الدولة وتحطيم قوانينها ومؤسساتها. والصراع الطائفي، فوق ذلك، هو صراع حاصل بين الطوائف، لا بين زعماء الطوائف؛ فهؤلاء أمورهم مرتّبة، وكل طموحهم أن ينْتشوا قطعة إضافية من الجبنة ضمن لعبة حدودها مفروضة عليهم، لم يخترعوا إلا أسلوبها. والمؤتمر الصحافي الذي عقدته “الهيئات الاقتصادية” منذ يومين، يضفي على الوجه الطبقي لهذا الصراع سمات أكثر وضوحاً، إذ يضع كبار “المستثمرين” في الخندق المقابل للحِراك، مع الطوائف ونظامها، من دون دولتها. ولكن الأهم من كل ذلك، إن الحِراك قام، موضوعياً، بما كان على الطوائف أن تقوم به منذ أكثر من دورة إنتخابية: فالطوائف عطّلت الإنتخابات، أي انها عطّلت عمل واحدة من مؤسسات الدولة، وذلك لأسباب تتعلق بحسابات ما هو متوقع من المغانم التي ستهطل عليها عندما يُحسم الصراع في المنطقة.

أي ان الطوائف جمّدت العمل بمؤسسات الدولة، لتترقب الحصص الآتية مع التوازنات الجديدة. والحصص ليست من منطق الدولة، إنما من منطق القبائل. المهم، ان عزوف الطوائف عن التجديد لدمائها، ولو بالقوانين المغشوشة، خلق فراغا هائلا توّجته النفايات، وملأه الحِراك بمطالبته للطوائف أن تقوم بدورها النظري، المفترض، أي أن تملي وظائف الدولة. من يتذكر السؤال، الذي باتَ كوميدياً، لشدة ما بهْدله اللبنانيون، سؤال “وينيي (أين هي) الدولة؟”… “وينيي الدولة؟”، بعد كل مصيبة، وكيفما ولّيت: مسؤولون استولوا على الدولة، لا يكفّون عن طرحه، وبراءة الأطفال في عينيهم… فوق استيلائهم على الدولة، سطوا على هذا السؤال، بعدما سكنَ ألسنة مواطنين يشتاقون إلى وظائف الدولة الأولية، من تنظيم شؤون الكهرباء والماء والنظافة والأمن والطرقات…الخ. “وينيي الدولة؟”: هنا فكرة الدولة ومستقبلها، في الحِراك وبلاغة إشاراته. قد لا “ينتصر” هذا الحِراك، فلا تنظّف الدولة من قراصنتها، ولكنه تمكن من إحياء عظام هذه الدولة وهي رميم.

(المدن)

السابق
بين المشهد العوني ومشهد الحراك امس: هذا ابرز ما حدث
التالي
أهالي موقوفي التظاهرات يعتصمون أمام المحكمة العسكرية