في طغيان العاطفة عند العرب وانتهازية العقل الإيراني…

ايران
يعاب على العرب أنهم يستخدمون عواطفهم أكثر من عقولهم، حتى في الأمور المصيرية. أما الشعوب الأخرى فتعمل عقلها فقط، في مقاربة قضاياها وإدارة علاقاتها. وأحيانا يتهم العرب بأنهم بلا عقل أساسا، تتحكم بتصرفاتهم مجموعة من الغرائز.

هذه العقلانية، كما يرى البعض، هي التي أنتجت اتفاق إيران مع الدول الست، بينما استحكام الغرائز بالعرب لفظهم خارج المعادلة.

لا يهم هنا الموقف العربي الرسمي من الاتفاق النووي الإيراني، علاقات الأنظمة العربية مع المجتمع الدولي خصوصا الولايات المتحدة كانت وما تزال على حساب شعوبها، وقلقها من الاتفاق لا يتخطى حدود ظهور منافس لها على الطاعة. ما يهم هنا هو مصير العاطفيين العرب ممن مشوا خلف إيران الثورية التي وعدتهم بهزيمة الإمبريالية، ورددوا معها “أميركا الشيطان الأكبر”.

أن تصبح “أميركا” بين ليلة وضحاها دولة صديقة، دون أن تعدل برنامجها العدائي اتجاه شعوب المنطقة كما عدلت إيران برنامجها النووي، دون أن تتوقف عن تغذية إسرائيل بالمال والسلاح، ودون أن تتراجع عن حربها المقنعة في العراق واليمن وسوريا وليبيا ومصر، هزيمة كبرى للوجدان العربي الذي ارتبط عاطفيا بشعارات الثورة الإيرانية، بعدما أحبطته الهزائم العسكرية واتفاقيات السلام.

من حق الشعب الإيراني أن يحتفل بتوقيع الاتفاق النووي، ويجني ثماره كما يشتهي، ومن حقنا ألا نحسب هذه الاستدارة تفوّقا عقليا على العرب

في المقابل، هناك جمهور عربي آخر، لم يفجعه اتفاق إيران مع الدول الست، إنما هلل وصفق له، واعتبره نصرا مبينا. لا ملامة على هذا الجمهور، فهو عربي المنبت والمنشأ، أي عاطفي. وهو كما يصفه أصدقاؤه الإيرانيون يقدم العاطفة على العقل، ويأمل أن يسعفه الالتصاق بالقدر الإيراني في البقاء داخل المعادلة، هذا إذا لحظت وجوده بنود الاتفاق.

تختصر الشاعرة العراقية نازك الملائكة واقع العرب، في وصفها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: “عاش للعواطف وبالعواطف حتى أصبحت العواطف عنده مرضا ناهشا”. هكذا هم العرب، من بائدهم إلى عاربهم إلى مستعربهم، وبعد تفرقهم شيعا في الصحارى اثر سيل العرم، تحركهم عاطفة ما ويجمدهم نقيضها. هكذا هم منذ قحطان وعدنان والمنذر وغسان والإسلام والراشدين والأمويين والعباسيين والأندلسيين، وعصور الانكفاء والتراجع والانحطاط والاستعمار والانتداب والاحتلال والتقسيم والانقلابات والنكبة والنكسة والحروب والاحتراب والثورات.

هناك جمهور عربي آخر، لم يفجعه اتفاق إيران مع الدول الست، إنما هلل وصفق له، واعتبره نصرا مبينا

فيما مضى، أبدع عبد الناصر في مخاطبة الوجدان العربي، أوهمه أن كل هزائمه نصرا، فصدقه دون أي محاسبة، وراحت الحناجر تهدر من المحيط إلى الخليج “يا جمال يا حبيب الملايين”. يوم زار دمشق للاحتفال بالوحدة، زحف إليه الجوار العربي، ليرى يده تلوح من نافذة القطار، متعاميا عن رؤية يده الأخرى التي عبثت بسيادة سوريا واليمن وقيّدت حريّة الأحزاب في مصر وسجنت أصحاب الرأي الآخر، وأنتجت النكسة.

كانت أخطاء منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان سببا في اشتعال الحرب الأهلية بين طوائفه، لكن كاريزما ياسر عرفات أسرت وجدان العدو قبل الصديق، اقتطع اللبنانيون رسيما وشعبيا، كرمى لعينيه “فتح لند” من أرضهم ليمارس منها أعماله العسكرية، عاد إلى فلسطين حاملا غصن الزيتون بيد، مسقطا البندقية من اليد الأخرى، لكنه ظل بطلا استثنائيا في الوجدان العربي.

شخصية الإمام الخميني الجذابة شدت انتباه العالم إلى إيران أكثر مما فعلت الثورة، بعيد عودته إلى طهران لحقه كل العرب المفجوعين بالهزائم، وكتب له أحمد فؤاد نجم رائعته “صباح الخير يا طهران العزيزة”. ارتمى بحضنه الحالمون العرب بعدما وعدهم “اليوم إيران وغدا فلسطين”، لكنه لم يدخل في حرب إلا مع العراق.

مفاوضات الملف النووي الايراني

الصورة التذكارية التي التقطت لظريف وهو يصافح نظيره كيري، عقب التوصل إلى الاتفاق النهائي، لا تختلف عن الصورة التي التقطت لمحمد أنور السادات وهو يصافح مناحيم بيغن بعد توقيع معاهدة السلام في كامب ديفيد. الاتفاق مع أميركا لا يختلف عن الاعتراف بإسرائيل، ليس هناك مفاضلة بين الأعداء، العدو عدو، والصديق صديق، ولا منزلة بين المنزلتين.

لكن الأقسى من مشهد الكادر الرسمي، هو ردة فعل الشارع الإيراني بعيد شيوع خبر توقيع الاتفاق. خرج كما تقول الصحافة الإيرانية، 35 مليون إيراني إلى الشارع للاحتفال، رقصوا وغنوا وطبلوا وزمروا وشربوا الأنخاب.

في حين اجتاح الغضب شوارع العواصم العربية بعد كامب ديفيد، الشارع المصري لم يعترف بالمعاهدة حتى الآن، وقد غسل عاره ببضع رصاصات بعد بضع سنوات استقرّت في صدر السادات.

من حق الشعب الإيراني أن يحتفل بتوقيع الاتفاق النووي، ويجني ثماره كما يشتهي، ومن حقنا ألا نحسب هذه الاستدارة تفوّقا عقليا على العرب العاطفيين أو “البهاليل”، وندعو الله أن ينمي عاطفة الكره في قلوبنا اتجاه “أميركا” ويصغر عقلنا حيال صداقتها!

السابق
الكويت أدخلت عدد الأربعاء من جريدة الحياة.. يوم الخميس!
التالي
كتاب عن سير أعلام آل الصدر وآل شرف الدين