الخلَل في «الدول السنّية»

الإدارة والإعلام الغربيان يلعبونها “ريلاكس”، باسترخاء تام ومن دون عقد، بإنزالهم الصفة “السنّية” على الدول التي تحارب النفوذ الإيراني في المنطقة. وليس من دول معنية بهذه الصفة، إلا الدول العربية، لا دول غيرها، ولا حتى تركيا المجاورة، المنافسة لإيران، ولكن الداخلة هي أيضا في نزاع “سنّي سنّي” مع الكرد. هل الغرب هو الذي صدّر هذه الصفة “السنّية”، أم نحن الذين رمينا كرتها في ملعبه؟ لا يهم الآن التدقيق في هذا التفاعل للكلمات. المهم ان هذه الدول والحكومات “السنّية”، يعاتبها بعض مثقفيها لضعف نفوذها في العالم بالمقارنة، طبعاً، مع النفوذ الإيراني و”نجاحاته الدولية”. أبرز أولئك المثقفين يكتب مؤخراً عن أسباب هذا الضعف، منطلقا من “النموذج” الايراني، في مقارنة معه؛ فيستنتج بأن “الغياب الديبلوماسي والشعبي” أمام “الحضور الإيجابي” لإيران في الغرب، يعود إلى اننا لم نقم بما قامت به إيران: تكاسلنا في “العلاقات العامة”، وفي انشاء “لوبيات” (lobbys) منظمة وفعالة، وفي الأنشطة الديبلوماسية لسفاراتنا… وكأن الدولة الإيرانية أصبحت مصدر إلهام لكاتبنا، أصبحت نموذجا يقتدى به؛ تماما كما كان موقفنا نحن من أوروبا، عندما استعمرتنا، فقررنا انها النموذج، لأنها تفوّقت علينا، بتنا بحاجة إلى الإقتداء بها.

 

الأمر يتكرر الآن، مع الإحساس القوي بأن ايران، ان لم تكن انتصرت علينا، فهي على الأقل سجلت ضربات قوية في ملعب معنوياتنا السياسية. أين تقع نقاط الضعف الحقيقية، في الدول “السنّية”، وهي تواجه ايران؟ في انها تحاكي النموذج الإيراني الديني، الثورجي، التصديري، بأن تكون “متشددة”، على الأقل بالنسبة لجمهورها المتشدد، وكأنها بذلك تقوم بعملية ثأرية بدائية، ترفع تشدّداً بوجه تشدّد. وفي انها بذلك، لا تمدّ يدها إلى الشيعة من أبناء جلدتها، إلا في تظاهرات إعلامية، خجولة على كل حال. لم تبنِ فكرة، ولا طريقة، ولا رمزاً يفتح الباب أمام فهم آخر للخلاف السني الشيعي العريق، المتجدِّد عند كل صراع سياسي، والعائد إلى ألف وخمسمئة سنة. فلم تؤسس لمصالحة دينية قائمة على تأويل سياسي لا ديني لهذا الخلاف؛ ثم انها تسبح مع مختلف تيارات الإسلام السياسي، تدعمها، تخلق حالات التماهي معها، على اختلافها، بين سلفية وجهادية واخوانية؛ في انها لم تقم، أو لم يقم مجتمعها، ولا نخبها الفكرية، بقراءة للدين، يلغي توظيفه السياسي؛ ولا تملك تصوراً للإسلام يجتث الإرهاب الديني من منابعه الفقهية، فلا يسمح بهذا الكمْ الهائل من الانشقاقات الدموية في صفوف الإسلام السياسي، وكل انشقاق بصفته مصدر منعة دينية، أو المزيد منها.

 

القراءة الجديدة للدين باتت ضرورة. وهي وحدها الآن التي تعطي تلك الوثبة الحيوية، فتنسج خيوط رؤية دينية، تحتاج لعقود لتختمر في العقول، وتغذي القلوب. فلا تعود دول “سنّية” تحارب دولة شيعية، إنما رؤية سياسية تبني للدين مكانة مختلفة عن تلك التي بنتها الجمهورية الاسلامية الفاشلة اقتصاديا وأخلاقيا وأيديولوجياً، والناجحة ديبلوماسيا وعسكريا وعصبياً: عصبية فارسية في الداخل، وأخرى شيعية في الخارج، لتلك الميليشيات التي خلقتها على امتداد المشرق العربي. فإن كان هناك من دروس إيرانية، إن كان هناك ما وجب تجنّبه، مع انه مغرٍ، لأنه يلبي غريزة الثأر… فهو عدم الإنجرار خلف توصيفاتها المذهبية بدواعي “المظلومية”، وبعد ذلك، بناء تصور آخر للإسلام: إسلام يقوم على المواطنة والقانون والعدالة، ليس ترقيعاً، كما في خطب المتكلمين، بل تأصيلاً جذرياً. لم نخترع شيئا من هذه الأفكار؛ فهي موجودة، مبعثرة هنا وهناك، تحتاج إلى من يلمْلمها ويفرزها وينظمها، ليملأ فراغاتها؛ تلك الفراغات التي لا نتوقف عن الإشارة اليها، بصفتها الحاضنة المثالية للتوسعية الإيرانية في المشرق العربي. وهذا ما يحتاج إلى سنوات وعقود طويلة. الآن، ما هو متوفر من تصورات سريعة هو “تفعيل” أو “تنشيط” العلاقات العامة والسفارات والـ”لوبيينغ”؛ وهذه كلها مثل الدواء المنتهية صلاحيته، لا ينفع ولا يضر. ربما يصنع نجوماً يلهون بنا، ونلهو بهم، في أوقاتنا الضائعة هذه، فيما المدى البعيد الآن هو وحده الممكن.

(المدن)

السابق
إيران وتعويم الأسد!
التالي
15 شهيداً حصيلة التفجير الإرهابي في السعودية.. وداعش يتبنى