إيران: قضية أم دولة ـ أمة؟

الاتفاق النووي

تغيرت موازين القوى داخل إيران بعد إبرام الاتفاق النووي مع الدول الست الكبرى، وإن كان حجم هذا التغيير وأطرافه الفاعلة غير معروفة على وجه الدقة حتى الآن. منذ إنجاز الاتفاق النهائي في فيينا، تتحدّث المنطقة من دون انقطاع عن التغيّر في موازين القوى الإقليمية، لكن أحاديث التغير في موازين القوى الإقليمي ـ على صوابيتها ـ لم تلحظ بقدر كافٍ أن التغيير سيطال توازنات إيران الداخلية والاجتماعية، وأن هناك ارتباطاً منطقياً ومتبادلاً بين التغيير الداخلي الإيراني والتغيّر في ميزان القوى الإقليمي. في المقابل، هناك تداخل بين عودة إيران إلى المجتمع الدولي من أبوابه الأوسع بعد الاتفاق مع القوى الست الكبرى، وبين سلوكها الإقليمي وتوازناتها الداخلية. ويعني ذلك في المحصلة أن تداخل الدوائر الثلاث المحلية والإقليمية والدولية هي سيرورة متكاملة، لا يمكن فصل دوائرها الثلاث، كما يُعتقد على نطاق واسع في التحليلات السياسية العربية الخاصة بإيران. ومن شأن الإحاطة بالدوائر الثلاث أن تظهر اختيارات إيران الصعبة؛ التي يخلقها الوضع الجديد بعد توقيع الاتفاق النووي.

 

نفوذ إيران الإقليمي والاتفاق النووي
بدا من بعض التخوّفات العربية من نتائج الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الست الكبرى، وكأن نفوذاً إقليمياً ما سيهبط من السماء على إيران بعد توقيع الاتفاق، بحيث إن «خيانة» أوباما لحلفاء أميركا في المنطقة تعلّل وتفسّر نفوذ إيران الإقليمي، ذلك الذي يعطيه الاتفاق الضوء الأخضر ليتمدّد ويتوسّع في طول المنطقة وعرضها. ومع التسليم بوجود ارتباط ما بين أدوار إيران الإقليمية والاتفاق النووي، إلا أن الأخير لم يخلق نفوذ إيران الإقليمي من العدم؛ بل ربما كان النفوذ الإقليمي الإيراني دافعاً لإبرام الاتفاق النووي وليس العكس. بمعنى آخر، لنفترض جدلاً أنه لا يوجد برنامج نووي إيراني من الأساس، (وبالتالي فلا مفاوضات نووية ولا اتفاق مع الدول الست الكبرى)، ونقيّم وزن إيران الإقليمي على ضوء مقايسته مع نفوذ غريماتها الإقليميات. سيتضح للقراءة الموضوعية أن نفوذ إيران الإقليمي ـ برغم كل كوابحه المعلومة ـ سيتفوق على نفوذ السعودية ونفوذ دولة الاحتلال الإسرائيلي. فلا الأخيرة برغم صواريخها النووية قادرة على فرض قبول شعبي بوجودها أساساً، ولا السعودية بفوائضها المالية ونفوذها الدولي قادرة على اجتراح مشروع إقليمي سوى تثبيت الأمر الواقع، ذلك الذي تدحرج بشدة منذ احتلال العراق العام 2003 وحتى كتابة هذه السطور. ناورت إيران بسياساتها ونفذت من ثغرات خصومها، واقتات مشروعها الإقليمي على خواء المشروعات المقابلة، ودفعت رأسمالاً سياسياً كبيراً في سلوكها المناهض لنسق المصالح الأميركية في المنطقة، فحصدت نفوذاً غير منكور، لكنه غير معترف به من خصومها ومن المجتمع الدولي على حد سواء. بعد ذلك الاستعراض، نعود ونضع البرنامج النووي الإيراني على طاولة البحث مرة أخرى، فسنجد أن الاتفاق النووي وعودة إيران إلى المجتمع الدولي سيقننان نفوذ إيران الإقليمي في حدود من ناحية، ولكنهما سيفرضان في الوقت ذاته أنماطاً بعينها من السلوك على إيران من ناحية أخرى. الجزء الأخير من المعادلة، أي القيود على السلوك الإقليمي، تبدو غائبة تماماً عن التحليلات السياسية العربية برغم أهميتها الفائقة على ما سنرى في السطور المقبلة.

إيران قضية أم دولة ـ أمة؟
يضمر السؤال هنا معاني عميقة تتعلق بمستقبل إيران الإقليمي أكبر بكثير من البراءة التي قد تبدو ظاهرة على السطح. ولا غرابة في ذلك، حيث صكّ هذا السؤال الديبلوماسي الأميركي الأشهر هنري كيسينجر في معرض محاولته الناعمة لتسليط الضوء على الشروط غير المرئية على عودة إيران إلى المجتمع الدولي، خصوصاً سلوكها حيال إسرائيل وتحالفاتها مع القوى غير الدولتية في المنطقة. اشتهر الثعلب كيسينجر بديبلوماسيته مع بلدين أساسيين حوّلهما ـ بتفاوت في النجاح ـ من موقع المعادي للولايات المتحدة الأميركية إلى موقع آخر وهما: الصين ومصر. وعندما يعود كيسينجر في هذه الظروف ليتحدث عن إيران، فعلى المرء أن يستعرض في ذهنه مباشرة تجربته مع الصين ومصر. لم يقل كيسينجر صراحة أن على إيران شروطاً يتوجب تنفيذها، لكن طبقات السؤال «البريء» حول القضية أم الدولة تتحمّل تلك الأبعاد العميقة بسهولة. ببعض التبسيط، يضمر السؤال معنى أن استمرار إيران في سلوكها الإقليمي المناوئ لحلفاء أميركا في المنطقة، وتمسكها بعدم الاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي، يجعل إيران مجرد «قضية» مختلف عليها وليس دولة إقليمية تحظى باعتراف دولي. واستطراداً يعني ذلك أيضاً أن تحالف إيران مع «حركات المقاومة» بتعريفات إيران ومؤيديها أو «القوى غير الدولتية» بمصطلحات العلوم السياسية أو «الحركات الإرهابية المسلحة» بمعايير القوى المؤيدة لإسرائيل في الغرب، أمر يتناقض بالضرورة ـ وفقاً لكيسينجر ـ مع عودة إيران إلى المجتمع الدولي كدولة ـ أمة.
حتى الآن، لم نشهد بوضوح تغيّراً في موازين القوى الداخلية الإيرانية للسير باتجاه القيود الجديدة، لكننا سمعنا في الأيام الأخيرة أصواتاً إيرانية في الداخل (أستاذ العلوم السياسية صادق زيبا كلام) وفي الخارج (الباحث السياسي ألكسندر وطنكا) تتحدّث عن ضرورة تغيير السلوك الإيراني حيال دولة الاحتلال الإسرائيلي بما يتلاءم مع مصالح إيران الوطنية. وتغيير السلوك هنا لا يعني بالضرورة الاعتراف بإسرائيل أو التبادل الديبلوماسي معها، وإنما تهميش إسرائيل في الخطاب السياسي الإيراني؛ ليصبح سلوك إيران حيالها شبيهاً بالسلوك الماليزي أو الأندونيسي أو الباكستاني، الأمر الذي يسهل ويسرع ويشرع عودة إيران إلى المجتمع الدولي، بحسب المنطق الداخلي للسؤال.

حسم المفاضلة وتوازنات إيران الداخلية
لا يعرف كيسينجر أيّ من الباحثين الإيرانيين الشهيرين، ولا توجد أي مؤامرة من أي نوع هنا، لكن تلك الآراء الإيرانية تشي بوجود رغبة عارمة لدى فريق داخل إيران وخارجها، إصلاحي وواقعي وبراغماتي ودولتي، بتقنين وضعية إيران الجديدة، بما يترتب على ذلك التقنين من فرص وقيود يجلبها الاتفاق النووي معه. في هذا السياق، يشكل السؤال «البريء» معضلة بالفعل، فمن ناحية أعطت «إيران القضية» الكثير من الزخم لنفوذ طهران الإقليمي ـ بغض الطرف عن الاتفاق او الاختلاف معها – لكنها كلفت طهران رأسمالاً سياسياً واقتصادياً ضخماً. في المقابل، فإن تغليب منطق الدولة ـ الأمة (تمتد إلى عمق تاريخي يزيد عن ألفي سنة) سيجعل إيران بمضمونها القومي الفارسي معزولة عن المنطقة بأغلبيتها السكانية العربية، فتغدو مكاسب إيران الإقليمية في السنوات الأخيرة في مهب ريح صرصر لم يحتسبها المتخوفون من الاتفاق أو المؤيدون له على حد سواء. ولا يُخفى أن معادلة إما أو الكيسينجرية تستبعد موضوعياً وفلسفياً إمكانية دمج طرفي المعادلة معاً، فيكون على أفراد النخبة الإيرانية وصناع القرار في طهران الاختيار بين سلوكين وسياستين لا يلتقيان ولكل منها أثمانه الكبرى. ومن المفهوم بالتالي هنا، أن حسم المفاضلة بين طرفي السؤال سيكون قرين الحسم في الحراك الداخلي الإيراني. في كل الأحوال وحتى تتبلور معادلات إيران الداخلية بعد إبرام الاتفاق النووي، يبدو أن سؤال: القضية أم الدولة، سيصبح محور استقطاب النخبة الإيرانية بتلاوينها الفكرية المختلفة في المرحلة المقبلة.

(السفير)

السابق
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر…الجنوبي !
التالي
عن الأوهام حول حزب الله