مسؤوليتي عن خياراتي

هاني فحص

أريد أن أتكلّم على مسؤوليتي وخياراتي. فأنا رجل لم آتِ إلى حياتي وعلاقاتي وتجاربي واختياراتي من مكان عقائدي او إيديولوجي أو فئويّ أو حزبيّ أو دينيّ أو مذهبيّ او إثنيّ. ولكنّي لا أنفي ما فيّ من هذه المفاهيم التي تدخل في تكوين ذاتي ووعيي، من دون اختزال الجانب المُركّب الذي هو أنا، كما هو الآخر، فإذا توهّم أو تورّط كان هو الخاسر وظلّت هويته على حالها من التركيب العظيم، وظل هو يشكو من نقص في وعي ذاته وحرمان من نعم ولذاذات أن يجد نفسه أو بعضها في من يختلف عنهم أو معهم مُشكلين أو مُتشكلين في لوحة يُصبح الفراغ فيها لونا آخر ويصبح التكوين المحايد متمّماً لمعنى الفن.
وأريد القول إني لم آتِ من مكان أو ممرّ إجباري إلى الفكر والحياة، وحتى في الحوزة التي تلقيت فيها علومي الدينية، استطعت أن أكتشف المساحات الفسيحة والظليلة وراء أقبيتها المغلقة، وتحت سراديبها التي تطلع منها البرودة المنعشة عندما يحتدم الحرُّ اللاهب في العراق.
لقد تعلّمت في النجف، وسكنت في حيّ كندة في الكوفة قرب منزل عليّ، وحيث لعب التراب والشعر ودمه أبو الطيب المتنبي، وحيث وضع أول نوتة موسيقية الفيلسوف العلاّمة الفقيه الكندي، فحقّ لي كما حقّ للشريف الرضي أن يُحبّ أبا اسحق الصابئي الذي عُرضت عليه الوزارة بشرط الإسلام، فأبى لأنه لا يريد أن يُسلم، وظل أستاذاً لعدد كبير من العلماء، فأحبّه الشريف الرضي كما لم يُحبّ أخاه، وكتب في رثائه قصيدة ما زالت تقطر حزناً:
أعَلمْتَ من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي
وأجلَّ المعري – أي الشريف الرضي – كما يُجِلُّ مثالاً، وساجَل الخليفة العباسي مستعلياً بالفكر والأدب واللغة والسؤال الفلسفي الذي قرّبه من الاعتزال، وهو شيعي مُصرُّ على شيعيته، وزاوج في نصه وسلوكه بين توجهات العشق وأشواق العاشق وبين التقوى والعفّة، فازداد الحُبّ في شعره جمالاً.
بتنا ضجيعين في ثوبي هوًى وتقًى يلفّنا الشوق من فرع إلى قدم
هذا، وأنا آتٍ من قرية لا يستغني فيها الضدّ عن ضدّه، ولا المثيل عن مثيله، ولا الخصم عن خصمه، ولا الحبيب عن حبيبه، ولا صخرة عن تربة، ولا تينة عن شجرة كرمة، ولا رمانة عن زيتونة، ولا حنطة عن شعير، ولا حبق عن ورد، ولا عصر عن فجر، ولا غروب عن شروق، لأنها كلها أوقات ومواعيد للحب والعتابا والميجانا، وانتظار المطر والزهر والثمر والحصاد والعرس والمأتم الذي يصبح بالحبّ مناسبة للفرح الداخلي العميق، لأن الشراكة بين كل شيء وكل شيء، بين كل فلاح وكل ما في الأرض وما عليها، شراكة تشبه التكوين والفطرة وتمتلئ بالحبّ والشعر.

(من كتاب على مسؤوليتي – منشورات صوت لبنان)

السابق
وفد من أمّهات مقاتلي حزب الله سيزور نصرالله اعتراضا على الخسائر بسوريا؟
التالي
مشروع الفيدرالية تلقّى صفعاته الأخيرة والحلّ باللامركزية