«داعش» يستقوي على الأقوياء

العدو على الأبواب، بل، العدو داخل الأبواب، بل، العدو في كل مكان… إنه يزحف، مقتلة بعد مقتلة. يشحذ الخراب والدمار والموت، ولا نفهم «معجزة العجز الدّولي».
«داعش» لم يعد تنظيماً. هو دولة إقليمية عظمى، بخلافة إسلامية، وجيوش مترامية العدد والعديد، وفنون قتل ورعب، ورسل «فتح» في أصقاع المعمورة، يوقّعون بالمذابح، صُكوك وجودهم، ويرسّخون إقامتهم بآيات إلهية مبرمة التفسير: هم ورثة الله على الأرض، لإقامة العدل، على جماجم الكافرين.
«داعش»، لا تقاس بحركات وتنظيمات ودول. لا يستقيم التحليل عبر مقارنتها بسواها. لا تشبه إلا ذاتها. حتى علاقتها بـ «القاعدة» الأم، ملتبسة وتكاد تكون نقيضها الميداني والفقهي.
من منبع واحد هما، لكنهما افترقا. فاز «داعش» على «القاعدة» وأخواتها، لأنه قرّر أن يقاتل العالم كله بدءاً بالعدو القريب، هنا وهناك وهنالك، وحيثما يصل انتحاريوه. له عيون غير مغمضة في القارات. منتشر ومتعدد الأوطان والبلاد واللغات. شيء من «أممية تكفيرية» يعتمد على مقولة «من ليس منا ومن لا يتشبّه بنا، هو عدونا». شيء من فلسفة الفسطاطين اللذين يؤديان إلى الهلاك المشترك.
«داعش»، الأقوى من الجميع حتى الآن. كما برهن الميدان، كان يمكن أن يهزم، أو من الممكن هزيمته، ولكن…
تونس بعيدة عن الموصل والفلوجة والرقة. أصيبت مرتين في درتها السياحية. أحبطت محاولات تسلل من المعابر بينها وبين الجحيم الليبي. الأمن يقوم بدوره، ولكنه قاصر في مواجهة هذا العدو. إقفال «المساجد غير الشرعية» خطوة جريئة ولكنها غير كافية. إعلان حالة الطوارئ لثلاثين يوماً خطوة ضرورية ولكنها قاصرة. ليس بهذا تخاض الحرب، وليس هكذا. العالم الآخر، معني بـ «داعش» تلفزيونياً.
الكويت، كانت تشعر أنها بعيدة عن الموصل والفلوجة والرقة، احتاطت أمنياً، زادت من مراقبة مواطنيها، ظلت المعابر نقاط عبور، منها يدخل الأعداء، ويحلون ضيوفاً لدى كويتيين يتعاطفون مع «داعش». ضَرَبَ «داعش» الشيعة إبان صلاتهم. ردت الإمارة بإقامة مراسم صلاة واحدة، سنية وشيعية. لقد كان ذلك معبراً عن إرادة وطنية جامعة، ولكنه غير كاف. التدفقات المالية لم تتوقف. البيئة الحاضنة تنمو وتضطرد. لا ثقافة بديلة، ذات أبعاد قيمية وروحية ومبدئية، تواجه «حلم الخلافة» السرابي.
دول «مجلس التعاون الخليجي» مهددة. «داعش» يضرب السعودية. السعودية تواجه موضعياً وأمنياً. هذا أساس، ولكنه غير كاف. البيئة السعودية الحاضنة تشكل خطراً على دول الجوار الإقليمي، من خلال النسبة العالية لالتحاق «مواطنيها» بـ «القاعدة» وبـ «داعش»، تأسيساً على تبني المملكة كارثة تجنيد وتمويل «الأفغان العرب»، لقتال الاحتلال السوفياتي لأفغانستان…
دول «مجلس التعاون» بقيادة السعودية متورطة في حروب إقليمية، تصب في مصلحة «داعش» وشقيقتها التوأم «النصرة». الحرب على سوريا أضعفت النظام، وقوّت «داعش» و «النصرة» ومن يشبههما من جحافل «السلاح الإسلامي»، بأسمائه الحركية المتعددة.
التحالف الدولي، منذ عام، كأنه يقاتل «داعش» بـ «النقّيفة». لم تثبت جدارة غاراته، إلا في الدفاع عن أربيل وسنجار في كردستان العراق، وعن «كوباني» على الحدود التركية مع سوريا. باستثناء ذلك، يبدو «داعش» طليقاً. أما التحالف العربي بقيادة السعودية، فمنشغل عن «داعش» بحربه الكبرى والمدمرة على اليمن. مئة يوم من القصف سمحت لـ «القاعدة» بالتمدد والتحضر في حضرموت، وهجرت من اليمنيين، أعداداً تماثل أعداد المهجرين من سوريا إلى ما تبقى منها.
بمثل هذه التحالفات وهذه الحسابات، يبقى «داعش» هو الأقوى. طبيعي أن يكون قتال إيران و «حزب الله» و «الحشد الشعبي» قتالاً جدياً، ولو كان ذلك يخدم النظام في سوريا ويقوّي من عضد الحليف الشيعي في العراق. فـ «داعش» وضع في رأس لائحة الأعداء «الروافض». «القاعدة» لم تفعل ذلك من قبل. «الروافض أولاً هو ما أفتى به الزرقاوي وطبّقه الخليفة البغدادي. هذا تحصيل حاصل، ولكنه غير كاف. هزيمة «داعش» السنية، لا يمكن إنجازها، ميدانياً ودينياً، بقوى شيعية. ستكون حرب استنزاف أبدية. المعركة بحاجة إلى أنظمة وحكومات وحشود سنية، تخوض المعارك ميدانياً، بخطاب تصالحي مع الآخر، السني والشيعي والوطني. محاولة الكويت الوطنية، عنوان يصلح، ويلزم أن يتخطى المناسبة فلا يتحوّل إلى «فولكلور» على الطريقة اللبنانية: «عيش مشترك»، و «خلاف مستدام».
تركيا لن تقاتل «داعش». تقاتل الأكراد والنظام. السعودية يقاتلها «داعش» وتدافع عن نفسها. لا تقاتله في ميادينه، في سوريا والعراق. تغض الطرف، بعدما كانت طرفاً في دعمه. أما قطر، فلا حرج لديها أن تكون «الجزيرة» المنبر الخاص لـ «مآثر داعش» الوحشية.
مصر تختلف عن الدول العربية الأخرى. هي دولة غير دينية. وسلطتها عسكرية، وهي في خصام وصدام مع «الإخوان»، وهي في حرب مع التنظيم في سيناء. أخطاء النظام كثيرة. لكن حربه على الإرهاب حقيقية، ولكنها في بدايتها، ولا تكسبها مصر من دون تحالف حقيقي متين وهادف وبلا حسابات كسب جانبية.
لبنان اختصر المسافة. «داعش» و «النصرة» ومن يشبههما عدو تكفيري، تصّدى «حزب الله» لهذه المعركة. الجيش اللبناني يقوم بدوره في حراسة الحدود، والقوى الأمنية تطارد الخلايا النائمة والتسلل عبر المعابر والسيارات المفخخة. ولكن ذلك غير كاف. الفريق المناوئ لـ «حزب الله»، وهو شريك في السلطة وفي التأثير على شرائح واسعة في المجتمع اللبناني، يشعر أنه جزء من حرب السعودية على اليمن، وعلى «الفرس» الجدد، في سوريا والعراق وبيروت والبحرين واليمن. وفي هذا السياق، يصار إلى تضخيم خطر بقاء النظام في سوريا، وتمويه «النصرة»، أو عبر اعتبار عناصر «النصرة» من السوريين. علماً أن «النصرة»، بلسان الجولاني، هي «القاعدة».
العدو على الأبواب، وهو موحد، عقيدة وبندقية وميداناً وهدفاً. يعرف من يقاتل وكيف يقاتل. فهل يدرك الآخرون أن كسب الحرب يتطلب حسابات أخرى، تنطلق من أن هذا العدو، غير قابل للتوظيف أبداً، وهو عدو حقيقي جداً، وأن مسألة قتاله هي مسألة حياة أو موت؟
إن لم يحصل ذلك يوماً، فلا أحد بريء من دمنا.

(السفير)

السابق
بالصور: كيف أنقذت العناية الإلهية هذه الطفلة من الموت؟
التالي
هل سيبقى لبنان بمنأى عن التفجيرات الإرهابية؟