«داعش» ابن الفكر القومي؟

جرائم الإسلام الجهادي «الداعشي» ليست حدثاً عابراً يمكن تداركه وانتظار انحساره بشيء من الصبر لحفظ نواة الدولة العربية الحديثة ومجتمعها. إنّه تحدّ تاريخي للعرب وللمهتمين بالعرب كدول أوروبا ومعها روسيا والصين.

 

أبرز وجوه التحدّي هو تفكيك صفة الإسلام السياسي والجهادي، ووضع حدود واضحة بين منتحلي هذه الصفة الإرهابيين وبقية المسلمين. هذه المهمة تتطلب جهوداً مشتركة من قيادات الدول العربية ووجوه المجتمع الاقتصادية والثقافية وعلماء الدين المسلمين المتمكنين، مع استقلال في الرأي.

 

العالم العربي يتهدم اليوم بوتيرة متسارعة، بعدما «تمكّنت» فئات تحتية بدعم فئات فوقية قصيرة النظر، ووصل الأمر الى حيث لا يستطيع احد اليوم إدارة «المتمكّنين». وحين تمكّنت «داعش» و «النصرة» وأمثالهما صارت حركات فاشية عاتية لا يمكنها قبول البشر، أو حتى تخيّلهم، إلا في هيئة واحدة ونسق متشابه.

 

وليس مستغرباً أن يكون «الخليفة» أبو بكر البغدادي ضابطاً سابقاً في الجيش العراقي، فالرجل العسكري يرفد الإسلام الجهادي بمصدرين جديدين يعطيانه عصباً واستعلاء لم تعهدهما الجماعات المقاتلة باسم الإسلام منذ الخوارج. المصدر الأول هو الفكر القومي كما تجلى في «البعث» و «حركة القوميين العرب» والناصريين (وإن بدرجة أخف). هذا الفكر مشبع بطهرانية العروبة ورسالتها الى العالم واستعلائها على الأمم الأخرى. وهو يواصل معركته بلا اعتبار للزمن وللمتغيرات السياسية والاقتصادية والعلمية. معركة تدور في مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية وتبقى أسيرة تلك المرحلة، لذلك يبدو الفكر القومي داعماً غير معلن لتنظيم «داعش» حين يواصل القوميون عداءهم المطلق للغرب الإمبريالي (ولا يقولون إنه امبريالي سابقاً) وللشرق الشيوعي (ولا يرون انه شيوعي سابقاً في الاتحاد الروسي كما في الصين).

 

والمصدر الآخر لدعم «داعش» هو الحكم العسكري الذي آلت إليه الانقلابات القومية البعثية والناصرية. فهذا الحكم يجد في الجيش عصباً أساسياً للدولة ويعتبر السياسة المدنية أداة لتفكيك المجتمع ومسرباً لعودة الاستعمار والنيل من استقلالية الدولة وصمودها في وجه الدول الكبرى «الطامعة بخيرات بلادنا». ويحرص الحكم العسكري على شعار «الإسلام الصحيح» من وجهة نظره، في وجه «الإخوان المسلمين» الذين ولدوا في مصر (أو استولدوا) لمناهضة الحداثة وتعدّد الثقافات، ثم تخصّصوا بالتعاون وبالتخاصم مع العسكريين حتى ساد العداء بينهما ورأينا ضربات العسكر تلحق بـ «الإخوان» على اختلاف مسمّياتهم في مصر وسورية والعراق. وها هو العسكري يجدد وجوده في الحكم عبر صورة «خليفة»، بعدما فشل في إدارة الدول التي حكمها وأوصل الى رئاستها ديكتاتوريَّيْن في العراق وسورية هما صدام والأسد، وشاهداً صامتاً على الفساد هو حسني مبارك على رأس دولة مصرية يحكمها العسكر.

 

«الخليفة» – العسكري السابق – يجدّد نفسه ليفترق عن تجارب الإسلام الجهادي الفاشلة، متزيّناً بمتطوعين غير عرب يشبهون عبيد القرون الوسطى السعداء. ووجه التجديد هو التخفُّف من عبء المجتمع المتعدد والدولة العميقة، وهو يواجه هذا العبء بحرب إلغاء يعتبرها «غزواً» و «فتحاً»، في دلالة إلى أن الدولة العربية الحديثة وشعبها هما «الآخر» الذي يجب أن يبايع الخليفة أو يموت، أو أنه يُطرد في أحسن الأحوال. حتى أن مراقبي الحدث العربي اليوم عندما يتجاوزون دهشتهم من دموية الحدث العمياء لا يكادون يجدون فارقاً بين جريمة القتل الموصوفة والفعل الجهادي «الداعشي» باسم «الخلافة».

(الحياة)

السابق
اليكم عشبة في كل منزل تقضي على أهم الأمراض الصحية
التالي
طيران حربي معادي فوق البقاع