وين (تصريخك)؟

ما زلت أنتظر تصريخ الاحتلال (المحتلون يلفظون الحاء خاء) لي، لدخول مسقط قلبي ورأسي القدس. ما زلت أتألم، وأنا أراني أنتظر مع آلاف من شعبي مثلي إشارة المحتلين لي، لأدخل ذاكرة سيدي خليل أبو ناعمة، أية مفارقة وأي ألم! لكن، لا بديل عن هذه الطريقة، إلا إذا استطعت إقناع جسمي الثقيل الخمسيني احتمال مخاطر تسلق جدار الفصل العنصري العالي، والمحاط بالأسلاك الشائكة. أحترم كل من أخذ تصريحا وكل من رفضه، كل منهما يعبر عن طريقته في حب بلاده. حصل آلاف الفلسطينيين على تصاريح لزيارة أنفسهم، وآلاف رفضوها، وآلاف مُنعوا منها بحجة الرفض الأمني.

 

لا أستطيع أن أتجاوز محنة تحمل فكرة التصريح، ولا أقدر على تحمل فكرة الحرمان من الذهاب إلى حيفا. أنا مع تحمل هذا الألم، لصالح زيارة حيفا، مع طلابنا أو عائلاتنا أو أصحابنا. هناك في قلب حيفا، نمارس فلسطينيتنا الحادة أمام أعداء زماننا ومكاننا، ويكون للتصريح قيمته الصفرية، شيء يشبه أن نتنازل عن حساسيتنا تجاه الموضوع، لنأخذ مقابله جولة طويلة في عمق أعماقنا، الطبيعي أن لا يكونوا، الطبيعي أن نكون نحن من نعطي الآخرين أختام الدخول إلى بحرنا ومدننا.
لم تزر أمي السبعينية بحر يافا حتى الآن، أمي التي هُجّرت بعمر سنتين عام 48 مع عائلتها من بلدتها الساحلية، وهذا غير طبيعي. نصف طلابي في المدرسة لم يزوروا بحرَي فلسطين الميت وغير الميت، أليست هذه جريمة حرب صامتة؟ أولاد أخي في الصف العاشر والحادي عشر لم يدخلوا القدس، ويعرفون المسجد الأقصى وكنيسة القيامة من الفضائيات. كيف سيتعزز انتماء هذا الجيل الشقي الذي تحرمه إسرائيل من زيارة مدنه لفلسطين؟ وكيف سنقنعه بجدوى القتال حتى النفس الأخير، وهو لا يعرف لغة أزقة القدس، ولم تتداخل نظراته مع ضوء شفق يافا؟
في رحلتي المدرسية، أخيراً، مع طلابي إلى عكا، وبينما نقف معلمين ومشرفين على حافة السفينة، وهي تتهادى على وجه بحر عكا، وسط أغاني الطلاب ورقصهم الهائج، توضحت لي المسألة جليّة. يؤكد هذا الدخول في البحر، بكل هذا الحب والطلاقة والثقة، على طبيعية العلاقة التاريخية بيننا وبين المدينة، هذه العلاقة التي كسر انتظامها وجود طارئ لغرباء متوحشين. وعلى شاطئ يافا، كان طلابي يسبحون في البحر ويلهون متراكضين، ومتراشقين بالكرات وبالأمواج، كانوا بالفعل يؤسسون مع يافا عهد حب مقدس وميثاق وفاء لا ينقضي، من يقنع وزارة التربية في الضفة، لتوجيه رحلات كل مدرسة في الضفة الغربية كل عام إلى يافا وحيفا وعكا، وأن على المدرسين أن يعمّقوا في نفوس الطلاب وعقولهم فكرة أن هذه البلاد كلها لنا. هي دروس تاريخ في تاريخ البلاد الطلق، بلا مدرسة وطباشير وسبورات وأجراس ودوام مدرسي. فكرة موت الأجداد وموت الرواية (أو الذاكرة) الفلسطينية معهم، وهي فكرة الصهيونية غولدا مائير، يجب أن ُيرد عليها بهذه الطريقة: تأسيس لعلاقة عميقة مع مدننا الساحلية، تمهيدا لخلق عواطف حنين قوية تُرسّخ الإحساس بملكية هذا البحر وهذه المدن، هذه الملكية الطبيعية التي اعتدنا على الإيمان بها منذ الصغر، لكنها تتعرض، بين حين وآخر، لهبوب موجات اليأس والخوف، ومؤامرات المتآمرين، وتواطؤ المتواطئين على الذاكرة الفلسطينية (المحاصرة والمهددة باستمرار) أن تتواصل بقوة عبر الأجيال، ولا شيء أجمل من بلورة هذا التواصل بالرحلات الترفيهية والثقافية والعائلية لمدننا.
نطلب من الأعداء تصريحا لدخول أجسامنا. نعم، لكننا ندخل إلى أجسامنا، نتعرف على جيناتنا وتاريخ تنفسنا، ونجدد الولاء للقلب، ونقسم للروح بأننا لن نخون، ولن نتعب.
وحين يسألكم السجان الواقف على مفارق الجسد: وين (تصريخكم)؟
أبروزا التصريخ، تألموا قليلا، ثم ادخلوا عميقا في البلاد.

(العربي الجديد)

السابق
الراعي يرفض المرشح الواحد… وصرخة البيال لرفض التسيّب
التالي
«لائحة حازم صاغية»