الدروز أيضاً بين الكوليرا والطاعون

الممانعون سعداء الآن. معضلة دروز سوريا أفرجت عن نظريتهم، وأثبتت صحتها. بات بوسعهم أن يتغنّوا بصوابيتها. فالمذبحة التي تعرّض لها عدد من أبنائهم في قرية لوزة في إدلب، والمخاطر المحدقة بأقرانهم في السويداء… كلها أتت مصداقا عملياً على “عمارة التنظير” التي بناها كبار الممانعين: كانت انتصاراً لهم، هم دعاة الحرب “الإستباقية” التي خاضها “حزب الله” ضد الثورة السورية، هم القائلون بأن “النأي عن النفس” كان وهماً سرعان ما انكشف عطبه واستحالته، هم الرافعون لراية “الدفاع عن الأقليات الدينية”، بوجه الأصولية السنية المتوحشة. هنا يعود “الحق” فيطغى على “القوة” وموازينها الامبراطورية؛ وباسم هذا “الحق”، ومن ضمنه، يندرج الإقتراح الإيراني بتسليم الدروز سلاحا وبناء جيش قائم بذاته، مقابل قسم الولاء التام لجيش بشار الأسد، وعدم نقل البندقية إلى الكتف الخصم.

هذا هو الخيار “العملي” الأول المطروح على دروز سوريا؛ أن ينضموا الى أصحاب “النظريات الصحيحة” بخصوص “الأقليات الدينية”، فيحاربون إلى جانب بشار الأسد، تحت راية محور الممانعة الإيراني.

 

الخيار الثاني لا يقل خطورة؛ فبعد ممارسات “جبهة النصرة” القهرية ضد أهالي إدلب من الدروز باسم “الشريعة” (تبديل الملابس، تهديم المقامات الدينية، سحب الأولاد الى معسكرات التدريب الخ)، وبعد التصريحات الواضحة التي أدلى بها زعيمهم أبو محمد الجولاني، على قناة “الجزيرة”، والتي لا تختلف عن تأويلات “داعش” إلا باللهجة… جاءت أصوات درزية لبنانية تناديهم بضرورة إنضمامهم إلى صفوفها العريضة ضد جيش بشار الأسد، باسم الوقوف مع الثورة؛ مع الكلام إياه عن “تطمينات” على حياتهم وأرزاقهم من “تجاوزات الأفراد غير المنضبطين” في صفوف المعارضة الإسلامية المسلحة. وهذه دعوة إلى نوع مختلف من الجحيم؛ جحيم تجاهل التوجهات الرئيسية لـ”الحليف” القوي، والتي سوف تفضي في نهاية المطاف إلى “حماية” أو “ولاية” أو “ذمية”، أو أي شكل من أشكال الخضوع للمنتصر بالسلاح الذي يحمل “تطبيق الشريعة” غير السمحاء على الدروز، كما على بقية المسلمين. يخففون من وطأة هذه الحقيقة بتجميل وجه “النصرة”، بتصنيفها “إسلامية معتدلة”، بالإطمئنان الى تأييد الغرب لها، أو على الأقل، تفضيلها على “داعش”. وكأن تجربة “طالبان المعتدلة” التي ابتدعها أوباما أول أيام ولايته، نجحت نجاحا مبهراً، وصار علينا التذاكي على الأصوليات الدينية الأخرى، عبر وصفها بـ”المعتدلة”، لعلها تصبح كذلك فعلاً… انه جحيم تجاهل الجحيم.

 

الخيار الثالث ليس أقل إشكالية: بأن يتحمس عدد من الضباط الكبار الدروز الإسرائيليين لمناصرة أبناء دينيهم في السويداء المحاصرين بين نارين، وأن يقوم أولئك الضباط بـ”اللوبيينغ” (لوبي) من أجل تدريب وتسليح عشرين إلى ثلاثين ألف درزي في جيش محترف بإمرة إسرائيلية، يتولى الدفاع عن نفسه ضد الجبهتين، الممانعة والأصولية. وهذا ميل رمى الحكومة الإسرائيلية في معضلة خاصة بها: فإما انها تتخلى عن سياسة “الحياد” التي اعتمدتها طوال السنوات الأخيرة من الزلزال السوري، وإما ان تتحمل إثم ترك الدروز لقمة سائغة لمن سوف يبتلعهم من أحد الأطراف المتنازعة التي تحاصرهم. حتى هذه اللحظة، وبعيداً عن حملات “استنكار التدخل الإسرائيلي” في سوريا، مالت الحكومة الإسرائيلية نحو “النأي بنفسها”.

 

ولكن لا شيء يدوم في شرقنا، ومستقبله مليء بالأسرار. هذه الخيارات الثلاثة المعروضة الآن على دروز سوريا تكشف وجهين من وجوه الثورة السورية: الأول ان قيادتها السياسية المتمثلة بـ”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” خصوصاً، هي أضعف من قيادتين أخريين أكثر ديناميكية منها: القيادة العسكرية للمجريات القتالية الحاصلة على الأرض، والتي تهيمن عليها “النصرة”؛ والقيادات التقليدية الطائفية الإقطاعية، التي تريد أن يكون لها دور في صناعة مصيرهم؛ لعلّها بذلك تحافظ على زعامتها. الوجه الآخر المكشوف عنه، هو ان معضلة الحالة الدرزية تلخص المعضلة السورية العربية المشرقية، والقائمة اليوم على الخيار بين أمرَّين: الكوليرا والطاعون. كوليرا النظام السوري الخاسر، ولكن غير الفاقد لقدراته التدميرية. وطاعون القوى المسلحة المناهضة له، والتي لا تملك غير تصور واحد واضح، هو “تطبيق الشريعة الاسلامية”… هذا من دون إحتساب سرطان إسرائيل المزْمن.

(المدن)

السابق
رمضان بدأ وهذه المسلسلات والبرامج التي سنشاهدها!
التالي
عدد ساعات الصوم خلال رمضان 2015 في جميع أنحاء العالم