نصر الله وانتحار الشيعة

رسالة من مواطن جنوبي إلى السيد حسن نصرالله

ولد الحزب مبشرا بتعبيد الطريق لظهور المهدي. اليوم يدعو السيد للعودة إلى صفين. لم يعد مطلوبا من الطائفة أن تخاف، أصبح المطلوب من الشيعة الانتحار.

يعلنُ السيد حسن نصر الله للشيعة في لبنان هزيمةَ حزبه في سوريا. لا يستخدمُ التصريح المباشر الواضح، على ما فعل الراحل جمال عبدالناصر لإعلان “النكسة” لشعبه عام 1967، لكنه يوحي للطائفة بقرب الطوفان، ويحاول أن يدلَّهم إلى سفينة النجاة.

وفي خرائط الخلاص يتخيّل السيّد نوحا وسفينته، كما يستذكر شمشون ومقولته الشهيرة “عليّ وعلى أعدائي”.

 

خطاب سيد حزب الله لجرحى الحزب والمسرّب للصحافة (الصديقة للحزب بالمناسبة)، لا يحمل للجرحى ثمارَ النصر الذي دفعوا الأثمان تحريا له، لكنه بلاغ حربي، على شاكلة ما يصدر حين تنهار الجبهات، وتسقط القلاع، ويصبح العدو على أبواب القصر.

قد لا يعرف اللبنانيون جسامة أمر الميادين، لكن نصر الله يملكُ من المعطيات ما يجعله، وأركان حزبه، يرتعدون من مصير ضبابي يستدعي استنفار كل الطاقات لدفع الهلاك الكبير.

 

بنى حزب الله عمارته على قاعدة لم يحدْ عنها منذ البذور الأولى للنشوء. يعتمدُ الحزب على الشيعة كمادة أولية وحيدة لإنتاج خططه وتحقيق أهدافه. ومن أجل ضمان توفر تلك المادة الأولية وعدم نضوبها، لجأ الحزبُ إلى عملية تخويف منهجي لا تنتهي، تجعلُ من أمن الشيعة وبقائهم مرتبطاً بقوة الحزب وديمومته.

اكتشف الشيعة مع السيد حسن نصر الله أنهم كانوا “عتالة عالبور” (حمالين في المرفأ) قبل قيامة الحزب، وأن وجودَهم في البلد (الذي يرجع إلى ما قبل تشكل دولة لبنان) مرهونٌ بصلابة الحزب وفائض قوته. لم تشعرْ بقية الطوائف اللبنانية أن عيشها اليومي يحتاجُ إلى ميليشيات مدججة بالسلاح، وإلى مخازن محشوة بالصواريخ. وإذا ما خيل لبعضهم ذلك، فإن دروس الحرب الأهلية أتت لتثبت عقم ذلك وهرائه. لكن السيّد، استطاع، للحق، إقناع الطائفة، بأنها مظلومة منذ صفّين، وأن “السلاح زينة الرجال” على ما نادى السيد موسى الصدر قبل ولادة الحزب، وقبل ولادة الجمهورية الإسلامية في إيران.

 

والحق يقال أن الشيعةَ في لبنان، ما عدا “شيعة السفارة الأميركية”، على ما نعتهم نصر الله في خطابه الأخير، قدّموا للسيد وحزبه الدعم اللانهائي، طالما أن معادلة عيشهم وسلامتهم وتطوّرهم وتنامي حصتهم في تركيبة البلد أضحت متّصلة مباشرة بعافية الحزب.

أضحى “فدى صرماية السيد” شعارا كلاسيكياً، سواء في تغطية الحزب ضد “مؤامرة” المحكمة الدولية في اتهام بعض أعضائه باغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو في رفد الحزب في حرب “لو كنت أعلم” عام 2006، أو في قبول استخدام “سلاح من أجل السلاح” في “7 أيار” الشهير، أو في مغامرة الحزب للزج بالشيعة في أتون الحرب في سوريا “دفاعا عن المراقد” وجوامد أخرى.

 

قدّم الشيعة في لبنان كل ما يستطيعون تقديمه دفاعا عن حزب الله. قدموا أبناءهم يموتون في معارك الحزب مهما تناقضت وتعددت وتباينت خياراته. تحوّلت ثقافة العيش العام إلى ثقافة موت دائم، في تشييع القتلى وإحياء ذكراهم أسبوعاً بعد أسبوع، وعاما بعد عام. وصمتت الطائفة بحيرة المؤمن حيال مشهد “شهداء الواجب الجهادي” يسقطون تارة ضد العدو الإسرائيلي، وتارة ضد العدو اللبناني العميل، ومؤخرا ضد العدو التكفيري السوري. بدا للطائفة أنه “تعددت الأسباب والموت واحد”. وكأن الموت قدرُ الشيعة وحدهم.

بعد كل التضحيات إيمانا بأن الخلاص يستلزمُ ذلك، يبشّر السيّد نصر الله الشيعة بموت جديد. ولأن التقنيات القديمة لا تتبدل، فوجب تخويف الشيعة (أضاف إليهم في خطابه التالي المسيحيين وقادة تيار المستقبل) من مصير قاتم. خيارات السيّد في سوريا هي “أن نقاتل أكثر من السنوات الأربعة الماضية، أو أن نستسلم للذبح والنساء والبنات للسبي، أو أن نهيمَ على وجوهنا في بلدان العالم ذليلين من نكبة إلى نكبة”. فهاهم السعوديون والقطريون والأتراك يتّحدون من أجل هلاك الشيعة (حسب إيحاءاته)، بكلمة أوضح، ها هم السنّة يتكتلون لإفناء الجنس الشيعي، كما فعلوا في… فلا يجد في التاريخ مرجعاً يسندُ فتواه.

لم تعد دمشق آمنة، ولم تعد بغداد كذلك. بين خطابه الواثق الذي أعلن فيه معركة القلمون وخطَبه الأخيرة، يخرج نصر الله للشيعة بجردة حساب هي أقرب لمقتلة أو دعوة للانتحار.

 

يرى الرجل أن مقتلَ ثلاثة أرباع الشيعة ضرورة “ليعيش الباقي بكرامة”. لا يملكُ نصر الله السماحة التي تحلى بها في خطاب النصر في بنت جبيل (مايو) عام 2000، حيث الترفع عن الصغائر والصفح والتسامح هي علامات النصر، فيما خطابه الأخير ينضحُ بنزقِ الخاسرين، ملمحا إلى تعبئة عامة (حاولت أوساط الحزب نفي ذلك)، فـ“إذا استنهضنا الهممَ وكنا على قدر المسؤولية سنحطم عظامهم وكل من يثبط أو يتكلم غير هذا الكلام هو غبي وأعمى وخائن”.

في منطق النبي نوح، فإن ثلاثة أرباع الشيعة سيموتون وستحفظ سفينة نصر الله وحزبه ربعا منهم، وفي منطق شمشون فإن المعبد سيسقط على الجميع. فها هو محمد رعد رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله في مجلس النواب اللبناني (أي من هو منوط به تقديم نسخة سياسية ديمقراطية للحزب) يتوعد قبل ذلك أشرف ريفي وزير العدل، ويهدد أحمد الحريري أمين عام تيار المستقبل بأن “حسابو بعدين” (حسابه في ما بعد)، على نحو يذكّر بمنطق الاغتيالات التي لطالما اشتبُه الحزب بالوقوف وراءها.

وفي ورشة هدم المعبد وفق الحلّ الشمشوني، ينهي السيّد حسن نصر الله حالة التسامح، أو التغاضي، التي كان يمارسُها حزب الله حيال المعارضين له داخل الطائفة الشيعية. وفيما تمّ نعتهم بـ”شيعة فيلتمان” في السابق (نسبة إلى السفير الأميركي في بيروت آنذاك)، فإن نصر الله يناديهم هذه المرة بشيعة السفارة الأميركية ويصفهم بأنهم “خونة وعملاء وأغبياء، ولن يستطيع أحد أن يغير قناعاتنا، ولن نسكت بعد اليوم ولن نداري أحدا”.

 

يعلنُ نصر الله خطاب القلعة المحاصرة قبل ساعات من نزال كبير. يقفُ على أسوار الحصن وظهره لجحافل الأعداء المتخيّلين الذين سيقتحمون عرين الطائفة بين دقيقة وأخرى. ومن أجل ردّ المصير الأسود يدعو للتعبئة العامة التي لا توفّرُ جهدا أو طاقة. والمعركة التي يعد لها، لا تحتملُ مرونة، فـ”قد نقاتل في كل الأماكن” (عرسال مثلاً؟)، “لن نسكت لأحد بعد اليوم ومن يتكلم معنا سنحدق في عينيه ونقول له أنت خائن، أكان كبيرا أو صغيرا و“مش فرقانة معنا حد”.

متى كان السيد والحزب “فرقانة معو”؟ فرّط حزب الله بنصر تحرير الجنوب اللبناني أو أكثره (للمناسبة لم يعدْ الحزبُ يطالب بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي صدّع رؤوسنا بالوعد بتحريرها، ورهن مصير كل المقاومة وسلاحها بهذا الوعد). انزلق حزب المقاومة إلى مجرد حزب سلاح، يطلُّ على البلد من خلال السلاح هدفا تُفتح المعارك من أجله، وتحوّل الحزبُ الأسطوري الذي احتل قلوب العرب في المشرق والمغرب إلى مجرد فصيل ميليشياوي يتبع مزاج الحاكم في طهران.

 

لا لوم على حزب سياسي أن يصيبَ ويخطئ في خياراته، لكن الكارثة أن يربطَ حزب الله شيعة لبنان بما يقترفه من خيارات منذ أن قابل شركاءه اللبنانيين المفجوعين بمقتل رفيق الحريري بجرّ الشيعة في تظاهرة “الوفاء لسوريا” (2005)، انتهاء بجر الدم الشيعي للنزف من أجل الدفاع عن نظام الأسد في سوريا.

من أجل عيون حزب الله لطالما طلب من الشيعة أن يخافوا ويكرهوا الآخر، لأنه عدو كامن. وُلد الحزبُ مبشراً، على ما يبشّر الولي الفقيه، بتعبيد الطريق لظهور المهدي. اليوم يدعو السيّد للعودة إلى صفين. لم يعد مطلوباً من الطائفة أن تخاف، أصبح المطلوب من الشيعة الانتحار.

(العرب)

السابق
«داعش» و Mad Max
التالي
السفارة في العمارة.. إيران والحزب ومستقبل سوريا