«داعش» و Mad Max

في الشريط الأخير الصاخب للمخرج الأسترالي جورج ميلير، والذي رُشّح للسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، واجتاح صالات العروض في عواصم العالم، يتربع الخيال على قمم عالية، لا تنافسه على الصدارة سوى شرائط “داعش”. عنوان الشريط “ماكس المجنون”، وقصته بسيطة: بطلها ماكس سجين في قلعة يسود فيها الطاغية إمرتم جو، في نظام من العبودية البدائية، بعدما انهارت الحضارة واقتصرت الإنجازات التقنية على تجميع ما تبقى منها. في أولى لحظات الفيلم، تهرب فوريوزا، مع خمسة من “جواري” الزعيم إمرتم جو. ويلحق بها ماكس، مستفيداً من الفوضى التي يتسبّب بها هذا الهروب.

 

تركب فوريوزا واحدة من السيارات المجمَّعة بطريقة متقنة، وتركض نحو حريتها غير محدّدة المعالم. إلتحاق ماكس بها هو من مجريات الشريط. وبذلك تبدأ مطاردة “جيش” إمرتم جو، للشاحنة التي تمردت قائدتها على العبودية، وتكون هذه المطاردة هي صلب الشريط من أوله وحتى آخره. لينتهي بمقتل إمرتم جو، ونجاح المجموعة الهاربة في هزيمة المطارِدين، بقيادة فوريوزا، وعودة هذه الأخيرة إلى القلعة بانتصار بائن، ونظام عادل؛ وهو نظام ترمز إليه فوريوزا بفتح حنفية المياه الضخمة ليشرب منها الأهالي، بعدما حرمهم منها إمرتم جو، وابتزَّهم بها. الفيلم مشوِّق وباهر، ولا يسعك هضم كل تفاصيل المشاهد التي يمررها عبر نظّارات ذات الأبعاد الثلاثة (3D).

 

ولكن أهميته لا تكمن هنا وحسب، إنما بنقاط الشبه الملفتة القائمة بين مشهديته ومشهدية “داعش”: الفيلم صُور في صحراء ناميبيا، وألوان رمال هذه الصحراء ليست صفراء، كما تكون في البطاقات السياحية الرومنطيقية، إنما حمراء برتقالية، بلون صحراء “داعش”، ولون بذلات سجنائه، أو بالأحرى غنائمه. والجهاديون الذين بأمرة البغدادي أبو بكر، لا يختلفون عن رجال إمرتم جو، المستعدين للموت والقتل دفاعاً عن نظام العبودية. وهو نظام انبثق من لحظة تشبه يوم القيامة، أودت بالحضارة بعد انهيار نظامها الإقتصادي؛ وهو انهيار نشهده يوميا، مرافقا لصعود “داعش” وتسجيله انتصارات على الأرض. ملاحقة الفارين نفسها خاضعة لرقصة ذات خطوات محدّدة، مدروسة، منتظمة على أنغام موسيقية؛ هي الموسيقى التصويرية والموسيقى التي يعزفها على الغيتار أحد رجال إمرتم جو، المحمول على رأس طليعة العربات المطارِدة.

 

مشاهد موت مقرّرة ملحّنة، هذه صفة إضافية لشرائط “داعش”، حيث يسير الجلادون والضحايا على خطى تم التدرّب عليها، يصدح معها الصوت المؤنِّب، أو الموسيقى التصويرية الجهادية. ولكن الأهم من كل ذلك ان الفيلم هو عبارة عن مشاهد، يكاد الحوار بين الشخصيات يكون معدوماً. هنا أيضا يتشابه الفيلم الأسترالي مع الإنتاج الإعلامي لـ”داعش”. والإثنان يرميان إلى التأثير البصري الحسّي الأقصى، وبمضامين “فكرية” بسيطة، لا تنال غير سطح الأشياء. طبعاً، يمكن أيضا إضافة فكرة العبودية الجنسية الواردة في شريط جورج ميلر وشرائط “داعش”.

 

ولكن هنا يفترق الإثنان. فـ”داعش” يجاهد، من بين ما يجاهد، من أجل العبودية الجنسية؛ فيما جروج ميلر، يحمل في شريطه فكرة نسوية جدا، قوامها ان تحرر ما تبقى من البشرية من العبودية التي وقعت فيها بعد انهيار حضارتها، يأتي على يد نساء. ا

مرأة، اسمها فوريوزا، هي التي تقود الشاحنة الهاربة من العبودية، وفيها نساء متواطئات معها، هاربات معها من رجل أخضعهن، وحوَّل جسدهن إلى آلة لذّة وإنجاب. والمرأة نفسها، تنتصر في النهاية، تقتل الطاغية، وتعود إلى القلعة لتعتلي منصّتها، شامخة حاكمة، بخسارة عينها اليمني، بعدما كانت خسرت في معارك سابقة، لا نعرفها، يدها اليسرى. ولكن نقطة الإفتراق هنا بين داعش و”ماكس المجنون” لا تعفينا من التوقف عند التشابه. الفيلم الأسترالي صور عام 2012، أي قبل أن تزدهر الشرائط الداعشية العالية الإتقان، وتأخذ طريقها نحو الجمهور العريض، خلال العامين الأخيرين.

 

لذلك لا يمكن ان نقول بأن الشريط الأسترالي تأثر بانتاجات “داعش” الفنية. إذاً هناك أمر آخر، قد تجد تفسيره بأن جورج ميلر الأسترالي، يسبح في الفضاء الخيالي نفسه الذي تخرج منه إبداعات “داعش”. فضاء تطغى عليه المشهدية البصرية، على حساب الكلمة، مسكون بعنف آسر ومستديم، مهجوس بفكرة نهاية العالم وانهيار الحضارة المعاصرة. ولئن افترق جورج ميلر، بنسويته وانعدام اهتمامه بالدين، عن “داعش” الذي يؤبد النساء ويسخر الدين…

 

فان هذا العالم الواحد الذي يتقاسمه مع “داعش” لم يخرج عن هذا الطابع العنيف، إلا بالمزيد من المشهدية وبالقليل جدا من التكنولوجيا؛ إذ ان ثمانين بالمئة من التاثيرات البصرية لم تلجأ الى التكنولوجيا، وجاءت على درجة عالية من الفن البصري العنفي الأخّاذ. وتلك هي الخطورة بعينها. أن يكون عباقرة الإتصالات والبرمجيات الداعشيين، على درجة من التفاعل مع هذا الفيلم، الذي يعتبر القمة من بين أمثاله، فيحسّنون بذلك من نوعية تأثرهم، بشرائط جديدة، أغنى من تلك التي سبقت. هل كان ممكناً تفادي “ماكس المجنون”؟

طبعا لا. فلو قُمع جورج ميلر تجنّباً لخدمة الإرهاب، لعادت روح عصره من شباك آخر، فألهمت متسقِّطي تطور آلات الموت المحبّب.

(المدن)

السابق
رمايات رشاشة اسرائيلية ومروحيات في اجواء مزارع شبعا
التالي
نصر الله وانتحار الشيعة