محمد علي شمس الدين يفوز بجائزة الشعر في «الشارقة»

بعد فوز الشاعر محمد علي شمس الدين بجائزة الشارقة للشعر العربي في دورتها الخامسة (2015)، أصدرت دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة مختارات من قصائده في طبعة أنيقة بعنوان «سطوح غادرت ساكنيها»، قدّم لها الشاعر محمد عبد الله البريكي.

تأتي هذه المختارات احتفاءً بالشاعر وتكريماً لمسيرته الشعرية الطويلة، وهي تضمّ قصائد مقتطفة من دواوينه التي يجمع بين معظمها النزوع الصوفي. ويُعدّ التصوف، في هذه المختارات، بمثابة النهر السرّي الذي يجري تحت سطح قصائدها، يغذّي رموزها وصورها وأقنعتها، ويمدّها بماء الحياة والروح. لكنّ شمس الدين لا يحاور التصوّف من الخارج كما يفعل الكثير من الشعراء، وإنّما يحاوره وهو في كنفه، يسائله وهو مستظلّ به.

علاقته بالتصوّف ليست علاقة ذات بموضوع وإنّما هي علاقة رحميّة فيها تتضايف المعرفة بالوجود. بهذا المعنى فهم شمس الدين التصوف الشعري. إنّه تصوّف «إنسانيّ»، إذا صحّت العبارة، مركزه الإنسان الذي يسعى إلى تجاوز منزلته في اتجاه المزيد من الانعتاق والحريّة: «أنا إمام الطواسين وحلاج الأسرار في الزّمن الغابر/ مازلت أحمل يقيني على كتفي من ألف عام/ وأطوف به البلاد باحثاً عمّن يغرس المسمار بين لحمي وعظمي».

لكنّ الشعر عند محمد علي شمس الدين ليس تعبيراً عن حقائق النفس فحسب، بل هو تعبير عن حقائق الواقع وقد امتزجت بحقائق النفس. إنّ الإحساس بالخلل ينتاب كلّ شيء بينما الكتابة طريقة نقد للحياة، ومحاولة لتقويم ما اختلّ من أمرها. ولا يعني هذا أنّ الشعر تحوّل إلى محاكاة للعالم الخارجي، أو وثيقة تحيلنا على أشياء قائمة في الواقع الموضوعيّ. إنما هو حفر في نص العالم، سعي إلى فهم تناقضاته، طرق على الأبواب المغلقة، احتجاج على ما استقرّ واستتبّ وبات معمماً وسائداً. «صلّيت ببغداد صلاة الدم/ ونثرت بغزّة أوجاعي/ وأقمت الجسر الواصل / ما بين الموت وأضلاعي/ دمعي أصل الطوفان/ وقرباني جسدي/ فاقطع إن شئت يدي/ ستموج الغابة بالأغصان/ ويعلو للأشجار عويل/ حتى يثقب سقف القبّه/ من لم يعرف وجع الإنسان/ وغربته في الأرض/ فلن يعرف ربّه».

هكذا تحوّل الشعر إلى خطاب استعاريّ يوسّع دائرة معرفتنا ويتيح استجلاء ما استخفى في نفوسنا وما استُتر في العالم من حولنا …لا شكّ في أنّ الشعر «يفكّر»، لكنّ طرائقه في التفكير تختلف عن الطرائق التي يتوسّل بها الخطاب العقلي. الشعر لا يعوّل على البرهان والمنطق في إدراك الحقائق وإنّما على الحدس والبصيرة، لهذا يقدّم إلى القارئ ضرباً من المعرفة المخصوصة التي تختلف اختلافاً بيّناً عن معرفة يقدّمها العلم والفلسفة.

تتأتّى جماليّة القصيدة عند محمد علي شمس الدين من الإيحاءات التي تشعّ بها الصور. هذه الإيحاءات تنبجس من الطاقات الكبيرة التي تنطوي عليها لغة الشاعر، أعني الإيقاع والأصوات، كما تنبجس من الكلمات وقد تواشجت على نحو غير مألوف. لهذا نقول إنّ أهمية قصيدة شمس الدين لا تكمن في الأسئلة الوجوديّة والروحيّة التي تتضمّنها فحسب، وإنّما في ما تنطوي عليه من إمكانات دلالية واحتمالات تأويليّة. فالقصيدة لا تحتوي على معان «جاهزة» يمكن للمتقبّل أن يظفر بها وإنّما تحتوي على جملة من الإشارات والرموز والاستعارات التي تستدعي القراءة .

وهذه القراءة لن تكون، في كلّ الأحوال، نهائيّة لأنّها تظلّ مجرّد احتمال تأويلي تعقبه، بالضرورة، احتمالات تأويليّة أخرى. هي أفق مفتوح على تعدّد المعاني، وهذا التعدّد هو الذي يتيح لها أن تتجدّد مع كلّ قراءة، أن تتناسخ مع كلّ تأويل. ويتجلّى هذا الخروج أقوى ما يتجلّى في ما سمّاه بعضهم «بلاغة العدول»، بحيث ينزاح الشاعر عن كلّ نظم النصّ الإيقاعيّة والنحويّة والدلاليّة المألوفة ليؤسّس طرائق جديدة في إجراء القول. وهذا العدول ليس عملاً خالياً من المعنى وإنّما هو المخرج الذي لا ينال بغيره أو إذا استخدمنا عبارات علماء الأسلوبيّة قلنا إنّه وسيلة إدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بغيره.

كلّ هذه الانتهاكات إنّما هي استدراج للغة حتّى تتحوّل من مؤسّسة جماعيّة خارجة عن إرادة الشاعر توجّهها وتتحكّم فيها إلى أداة تحرّر وانعتاق، عن طريقها يقول تجربته ويفصح عن رؤاه. فاللغة في الشعر الحديث، كما يقول جمال الدين بالشيخ، هي مجلي الشاعر وليست محبسه، فهو يتجلّى فيها ولا يكتفي بارتدائها، بل إنّه يؤسّسها. فاللغة تولد مع كلّ شاعر ولادة جديدة.

الحرية والعدالة والشعر باتت، في مختارات محمد علي شمس الدين، عبارات مترادفة بحيث تحيلك الواحدة على الأخرى في ضرب من التداعي الذي لا يردّ. فالكتابة ضرب من العزاء، على حدّ عبارة الشاعر عبد الوهّاب البيّاتي، لكنّ هذا العزاء ليس عزاء الخيبة إنما عزاء المواصلة. مواصلة البحث عن عالم أنقى وأجمل.

(الحياة)

السابق
عرض بالغ الدلالة لزعماء الخليج.. يُحدّد العناوين الكبرى لمستقبل الصراع
التالي
من الأقرب إلى خلافة البغدادي في قيادة «داعش» بعد الأنباء عن إصابته؟