نساء يطرزن الحنين بخيوط الأمل

هو مثلّث أضلعه نساء ثلاث، ما زال يتجدّد مع بادية فحص نصوصا تخطها من واقع ما يعصف بحياتنا من تجارب في هذا الوطن المعذّب، نتعرّف اليوم على شوق لاجئة عكاوية لموطنها المسلوب، وعلى شوق يتيمة لوالدها الراحل تبثّه وجع الكلمات، وكذلك شوق نازحة سوريّة مرهفة المشاعر تحنّ الى حوران، أنه الشوق المنبثق من مآسي نسوة ثلاث.

لاجئة

لكل مخلوق في الدنيا تاريخ ميلاد واحد. أما هي فلديها تاريخان، لكن الأول هو الذي يعنيها فقط. تتمنى لو أنه قدر لها أن تعيشه كما تشتهي. الثاني الذي كتب لها أن تعيشه لاجئة، لم تعترف به قط.

ولدت في عكا، ولم تمت فيها، ماتت يوم غادرتها. العمر الجديد الذي كتب لها بعد نجاتها من العصابات الصهيونية، ليس لها، هو ملك للحسرة، والحسرة تستدعي الموت.

الحياة في اللجوء نكبة مستمرة، والاعتراف بالعمر الجديد دعوة مواربة إلى النسيان، وهي لا تريد أن تنسى. الإنسحاب من الماضي فخ للغريب، لذلك تحاذر من الانخراط بما حولها. والحياة في اللجوء استعارة، وليس بطبعها الاندماج بأشياء مستعارة.

لا يستقر في نفس اللاجئ سوى القلق، الطمأنينة تجافيه، وهي منذ لجوئها مشتتة، مبعثرة، روحها في أرض وجسدها في أرض، ربما تحتاج إلى قيامة، لتشعر أنها موجودة، لتعيش حقا، عكا أيضا في حاجة إلى قيامة.

ما يخفف ثقل أيامها أنها ما زالت تحتفظ بكل ما يعبد دروب رجوعها إلى عكا، كما لو أنها لم تنفصل عنها، لهجتها، مناديلها البيضاء، مفتاح دارها، بعض الأواني النحاسية والاسكملات ومفارش الموائد وقناديل الزيت، والتطريز.

فهي تختار لتطريز أثوابها خيطانا تتناسب ألوانها وطبيعة عكا، فالأزرق لون الرزق المغمس بالملح العرق، يطرحه البحر مع كل طلعة شمس، الأصفر لون الأبواب المفتوحة مثل الكف اليمنى تصافح الزائر واليسرى حين تحتضن عزيزا، الأخضر لون الآمال المتدلية كالعرائش من فوق السطوح، البرتقالي لون الشبابيك حين يداعبها نسيم المساء، البني لون وجوه أهلها وجيرانها وأكف المارين يرمون التحية، والأحمر لون العودة المنتظرة.

كلما غرزت إبرة في القماش تشعر ببحر عكا يهدرعند عتبة الباب، وتلوح لها مئذنة جامع الجزار مرددة: أنا هنا باقية كرمح مغروز في كبد النسيان.

يتيمة

كل شيء يفقد طعمه في اليتم، الخبز والملح وتوابل الحياة، يصبح الفرح جلادا أبله، يلف سوطه حول عنقه، في ساعة هلوسة. والوقت في اليتم غراب أسود، يتقن دفن الذكريات البيض، يواري ألوان معانيها. في اليتم لا تتحرك عقارب الوقت من لدغة إلا إلى أخرى، تدس سمها في تفاصيل الحياة، تشل حركتها، تتلف خلاياها، فلا يبقى منها سوى بقايا ذاكرة تفيض بالوجع.

في اليتم، ليس أصدق من المرايا، القلب يكذب في اليتم، يوهمنا أنه ينبض بالحياة، لكنه لا يعدو كونه عضوا وظيفيا، نبضه لا يطيل سوى أمد الأسى.

هي لا تدري كيف أنها ما زالت قادرة على الاحتفاظ بأنفاسها، بعدما رأت نفسه الأخير يغادره. فتكتب له، أنها وحيدة وحزينة، أنها اشتاقت إليه، أنها تحبه، وتبكي.

قبل أشهر قليلة، لم تكن تستعين بالكتابة لتخبره أنها تحبه. كانت تقتحم خلواته فتجده مشغولا بعدّ أسماء أحبابه، تخبره أن حبها له يفوق حبهم مجتمعين، فيقبلها في جبينها ويضحكان. صارت عادة التطواف حول مكتبه هوسها. هي مقيمة هناك، وإذا ابتعدت، تلحقها أشياؤه، تلتصق بها، كأنها أعضاء إضافية نبتت في جسدها.

تود ألا تكتب إلا له، إلا عنه، كل ما عداه لا طعم له، رأيه كان يعطي كلماتها قيمة. تستنجد بالقراءة، لا تجد في مضامين الكتب ما يتسحق المتابعة، تنحيها جانبا، وتفتح كتبه. هو كتب كل شيء، كل الكلمات بعده فقدت شرعيتها.

نازحة

بيتي في حوران على تواضعه، أحلا بيت في الدنيا، غرفة كبيرة تستند إليها غرفتان ضيقتان كطفلتين تلتصقان بأمهما، وبهو واسع يحضنهن من كل الجهات، تدب في أرجائه مشاعر الرضا والقناعة، من أصوات شقيقاتي التي لا تهدأ، ورائحة المحاصيل الطازجة التي كان يرميها والدي عصر كل يوم عند عتبة الباب، وحركة أمي جيئة وذهابا تبث فيه الحياة كما تنفخ الروح في جسد جنين.

كلما آويت إلى غرفتي السوداء هنا، ينتابني شوق إلى دفء جدرانه وأرضياته، إلى ملمس خشب أبوابه وشبابيكه العتيقة، إلى حبات النارنج تضيء عتمة باحته كما نجوم سماء صيفية، إلى كركرة المياه في البركة الصغيرة وسط البهو، حين تنسى والدتي الحنفية مفتوحة، وتنهض جدتي تجرجر قدميها، لتقفلها جيدا، وهي تلعن الكنائن المهملات.

لم نزحت؟ أبي كان مزارع قمح، ولا أدري لماذا لم يزدنا عمله الكثير إلا فقرا، وجد في الثورة مكانا لينفس فيه عن غلبته وجوعنا، خرج مع من خرجوا في المظاهرات، لم تمنعه أمي، كانت أشد حماسة منه، مرت أيام معدودة على المظاهرة الأولى، جاءنا زوار الليل سحبوه أمام أعيننا، وأعادوه بعد أيام في كيس أبيض، منتفخ الجثة مقطوع الرأس والأطراف، فدفناه في الحال، ونزحنا.

أعمل في تنظيف البيوت، شيء يشبه الألفة نما بيني وبين أبوابها التي أقرعها كل صباح، ربما لأن كلانا مقطوع من شجرة، ربما لأني مثلها أتقن فن الإنتظار بصمت على الأعتاب. تحزنني البيوت التي أقصدها، نسائم الدفء التي تسرح فيها، تداخل أصوات الأطفال والأمهات والآباء ببعضها بعضا، خاصة عند الصباح، رائحة الغسيل والطبخ وطقطقة الملاعق في كؤوس الشاي، تذكرني كم أنا نازحة وغريبة.

مضى أربع سنوات على وجودي هنا، أظن أنها كافية لأفقد قدرتي على إيجاد الجوابات الملائمة لأسباب نزوحي، أحلم بالعودة إلى بلدي، وأحلم أيضا أن الآخرين الذين ذهبوا إليها قد عادوا منها إلى بلادهم. ربما أنا هنا لأنهم هناك. أتمنى لو أملك القليل من الجرأة لأنتفض بوجه من يتأفف من سماع لهجتي ورؤية لون بشرتي وأقول له: “إن عدتم عدنا”.

السابق
السيّد الأمين: لرجل الدين ان يعمل بالسياسة ولكن ليس كـ«فقيه»
التالي
حسان الزين.. هل الانتقال من ضفة لأخرى يستوجب هذه الإثارة؟