ثلاث نساء مطلّقات التقين على حبّ الحياة….‎

نساء
كان يمكن لهذا اللقاء أن يكون كأي لقاء عادي يحدث بين ثلاث رفيقات لولا أن أرّخته بادية فحص بنصّ جميل شدّنا فيه إسلوبها المعهود الذي يتسلّل الى الوجدان برقّة ورشاقة ويغوص الى العمق ليستخرج ما يشف من مشاعر تختلج بكلمات وحروف نابضة حيّة.

ثلاث نساء مطلقات في سيارة صغيرة، والحديث عن علاج أوجاع القلب بالنسيان، عن لعنة الذاكرة، عن تحول أعراض الخرف وتشتت الذهن أحيانا، إلى نعمة. ألا تشبه ذاكرة المرأة المتزوجة جنديا مستنفرا على خط متقدم للجبهة، وذاكرة المطلقة مستسلمة مثل أسير؟

ربما في ذلك حكمة. الألزهايمر دواء ما بعد الانفصال، لولاه كيف يمكنهن أن يعملن ويسافرن ويقرأن ويكتبن ويضحكن ويغنين، وربما لو أبكرن بالإصابة به، لما اخترن أن يمشين ما بقي من درب الحياة وحيدات.

ثلاث نساء وحيدات على الطريق البحرية، يتحدثن بحرية، بكثير من الفكاهة وقليل من الجدية، عن المصطلحات والنظريات والمفاهيم التي تعج بها خطابات الجمعيات النسوية، عن الحضور الذكوري الذي يصفق لهن بيد ويصفعهن باليد الأخرى.

هن يعرفن أنهن صاحبات حق ولسن بحاجة إلى صك اعتراف من أحد، يكفيهن أنهن مؤمنات بحقهن كي يكملن حياتهن كما يشأن، كي يبقين كما هن نساء، يستيقظن كل صباح ليصنعن معجزة ويجملن قبح هذا العالم.

ثلاث نساء: لبنانيتان وإيرانية، ربما تلاقت أرواحهن قبل أن يتعارفن. وهن في طريقهن بداية النهار إلى صيدا، قررن أن يسافرن نهاية السنة إلى قونية في رحلة روحية.

قد تتلاقى الأرواح الشفيفة في العالم الأثيري وتتحاب أو تتنافر، قبل تحل في أجساد أناس تبعدهم عن بعضهم مسافات طويلة. لكن الروح إذا رغبت في اللقاء تمردت على الجسد، وقادت صاحبه إلى حيث هواها، فتكون الرحلة.

ما كان بين جلال الدين الأفغاني وشمس التبريزي الفارسي رغبة روح تفوقت على ما إرادية الجسد، الرحلة كانت شاقة في بدايتها ونهايتها، لكنهما تلاقيا، قتل التبريزي وأحجم بعده جلال الدين عن كتابة الشعر.

كان جسد السيد علي بدر الدين الضئيل أعجز من أن يطيق روحه المتمردة، أخذ منه الرحابنة “ذكرى الحب حب” و “عصفورة الشجن”، كان رجل دين نجفيا وصوت المرأة عورة، فلم يوقع أشعاره الغنائية، قتل غيلة ذات صباح، وروحه ما زالت ترفرف مع صوت فيروز كل صباح.

ثلاث نساء الأولى شاعرة والثانية ناشطة سياسية والثالثة صحافية، على مدخل سوق صيدا القديمة، يوثقن بداية رحلتهن الاستكشافية بصورة على عتبة خان الإفرنج، يتقدم منهن فضولي يسألهن إن كن فرنسيات؟ تجيبه أقلهن شبها بالأوروبيات بضحكة. يتحاذق الفضولي ويعرض عليهن شراء تذكارات، فينصرفن غير آبهات. سيعشن ويتذكرن دون شواهد، ثمة مساحات غير مرئية في قلب كل واحدة منهن تتسع للاحتفاظ بألف ذكرى جميلة، فلا داعي لتلويث اللحظات الجميلة بالماديات.

عازمات على التجول في السوق، تقول إحداهن: “إمشيا خلفي، فكل الطرقات بتودي ع الطاحون”. يلتقط صيداوي ظريف عبارتها ويقول: “كل الطرقات هون بتودي على خان الصابون”، وبغمزة تآمرية بطرف عينه يدلهن على الزقاق المؤدي إلى مقصده.

ثلاث نساء الشاعرة أحوازية والناشطة بقاعية والصحافية من النبطية، تحلقن حول صحن قطايف صيداوية، مزيح القطر والجبنة السائخة وعجينة القطايف الخارجة من الفرن للتو، يستجلب الحديث عن سخونة الفضاءات السياسية في المدينة البحرية. ينقلهن للتعليق على المفارقات التي تبوح بها صور السياسيين المعلقة على الجدران، تعادل بأعدادها بين آل سعد وآل الحريري، الأول ترك خلفه قطاعا حكم عليه بالتسيب والثاني وضع البلد على سكة النهوض، وبينهما يخطر آل البزري، الذين طلع العشب ورعى الغزال بينهم وبين “الشهيدين” على السواء، فمرة كانوا مع النظام ومرة مع الفوضى.

ثلاث نساء عربيات، في المطعم البحري قبالة القلعة الصليبية، والأزرق رابعهما، وأصناف المازة اللبنانية السخية، يجدن استعمال الشوكة والسكين ومحارم السفرة، يمضغن لقماتهن على مهل، من دون أن يصدرن أصواتا مستنكرة، خلافا للصورة المنمطة عن العربيات، عن آداب المائدة عند الشعوب العربية.

الطبخ ثقافة أيضا، كما أسلوب تناول الطعام والجلوس إلى المائدة. إذا هن ثلاث نساء عربيات مثقفات، رغم أصولهن البدوية، رغم أن جداتهن في الصحراء كن يأكلن الديدان والجراد والضباع بأيديهن، بينما كانت جدات الشعوب المتفوقة يأكلن وردا وريحانا بملاعق ذهبية!

ثلاث نساء عاديات في سيارة يابانية حديثة، والحديث في طريق العودة لا بد أن يكون عن الحضارة اليابانية. القديمة المتميزة بروحانياتها وعمق إنسانيتها، والحديثة التي نشأت على آثارها فأنتجت هذه السيارة الذكية. أحيانا تفقد الحضارات عظمتها وتتبخر قيمها حين تبتر اليد التي تصل الإنسانية بالاختراعات العلمية. سقطت الولايات المتحدة إنسانيا في هيروشيما أسقطتها القنبلة الذرية، ونهضت اليابان أضعافا بعكسها، وربما ستسقط دولة أخرى في أوهامها النووية، وأثناء سقوطها سنرى أمة جارة تستعين بمآثر ماضيها لترمم حاضرها….ربما…ربما.

السابق
العثور على قنبلة على أوتوستراد البداوي أمام مجمع المدارس
التالي
هل هو تحالف سعودي تركي؟