حفلة شواء

الحريق يفترس الشرق، من أقصاه إلى أقصاه. ففي حفلة النار هذه، لا أحد يتغيّب عن الحضور والمشاركة. ألسنة جهنّم تلتهم الأخضر قبل اليابس، وليس من قطرة ماءٍ عربية أو دولية واحدة توقف هذا الكابوس الجحيمي.

ها قد بدأت الحرب الإسلاموية على المكشوف. العرب والعجم يتواجهون، بأتمّ شروط المواجهة. لا بالأقنعة، ولا بالواسطة، بل علناً، وبفنون الحرب، وأدواتها كلّها، وفي مقدّمها السلاح الأشدّ ضراوةً، فضلاً عن السلاح الأبيض، واللحم الحيّ. الأمة الإسلامية، الأمبراطورية الفارسية، السلطنة العثمانية، والأمة العربية بالطبع؛ الجميع يغمس لقمته في الصحن الديني والجيوسياسي الدموي. الخليج في المهبّ. اليمن (مؤنثة في كتب التاريخ) السعيدة المباركة تمعن في سعادتها الموهومة. الهلال الخصيب يتخصّب بالموت والفناء والزلازل. بلاد الرافدين تنجز لعنة عمارتها البابلية تحت سطوة الأسطورة والتراجيديا. سوريا لن تنام بعد الآن على مخدّة بردى. لبنان، أو بلد اللبان والبخور، ممنوعٌ منعاً باتّاً من انتخاب رئيس للجمهورية، بتعطيل النصاب في مجلس نوّابه الممدِّد لنفسه، وليس في هذا اللبنان مَن يستجمع عطر وردته الوحيدة النازفة.
في مكانٍ آخر من أمّة العرب المجيدة، ليبيا تستعيد تاريخها التفكيكي، وتعيد كتابته حرفياً على وجه التقريب. تونس، أيعقل أن يُسمَح لتونس البهية بأن تنجو بنفسها؟! مصر، لا أحد يعرف ماذا يُكتَب لمصر. ولا للسودان. ولا للمغرب. ولا للجزائر. وكذا يقال عن الأمم والدساكر العربية الأخرى.
فلسطين انتهت تقريباً. الصهيونية تزغرد.
هل مَن يملك الشجاعة الأدبية للاعتراض على هذا الوصف؟! إذا ثمّة اعتراض، أو توضيحٌ مخالِف، فليقل أحدنا إن هذه الصورة، أو بعضاً منها، يداخلهما زغلٌ أو غبشٌ أو غموض!
كلّ شيء بات واضحاً بما فيه الكفاية. النفير الإسلاموي يقترب من النهايات الأبوكاليبتية. العالم يبيع ويشتري. لكنه لا يتأخر عن المقايضة، عندما تعييه عمليات البيع والشراء. الحرب الإسلاموية إسلاموية حقاً، لكنها إسلامية وعربية وعالمية بامتياز. الشيعة والسنّة يتقاتلون ويتذابحون في كلّ مكان. إيران تحتلّ أربع عواصم عربية، بيروت واحدة منها، ونحن إما نكزّ على الأسنان وإما نصفّق. الخليج العربي في قيادة السعودية، صحبة باكستان النووية، السنّية طبعاً، قرّر أخيراً وعلناً الانخراط في المواجهة العظمى، وهي لن تكون بأقلّ من المتخيَّل الافتراضي. لقد اكتملت العدّة، في كلّ مكان، من باكستان إلى نيجيريا إلى نواحي الأمة الشرقية. فإلى أوروبا والولايات المتحدة. صالة الأبوكاليبس الإسلاموية لا بدّ من أن تفتح أبوابها للجميع. مَن يظنّ أنه يستطيع أن ينأى بنفسه من هذه الحرب الإسلاموية الضروس، سرعان ما يجد نفسه – وسيجدها أكثر – في الدائرة الجهنمية المفرغة.
يؤسفني أن أعلن بالفم الملآن أن الإسلامويين، جميع الإسلامويين، سنّةً وشيعةً، وأننا نحن العرب، بأكثرياتنا الماحقة، وأن المسلمين أيضاً، منخرطون طوعاً أو قسراً، الآن، وبحكم الأمر الواقع، ضمن رؤيا عمائية، وأنظمة وظلاميات توتاليتارية ديكتاتورية، قوموية وأمنية ودينية قاتلة. كلّنا خميني وصدّام حسين وحافظ أسد. كلّنا “داعش” و”نصرة” و”قاعدة” و”طالبان” و”أخوان” و”بوكو حرام” و”ولاية فقيه” ووهّابيون. قلة قليلة نادرة، شريفة ونبيلة، تجتهد لتكون عكس هذا التيّار الجارف. لكن، يبدو أن لا مفرّ في الوقت الراهن من هذا الطغيان المهول، الذي تُقاد إليها الشعوب الإسلامية والعربية كالأغنام، بأيدي السفلة. وحدهم الثوّار الذين يضيئون الليل العربي، وخصوصاً في الهلال الخصيب، ووادي الرافدين، ووادي النيل، وتونس الخضراء، وفلسطين طبعاً، لا يجدون أمكنةً علنية لنضالهم، وسقوفاً تؤويهم.
أكره العنف والقتل والإرهاب، وأكره الحرب، وخصوصاً منها الحرب الدينية. لكني ربّما سأكون فظّاً وسينيكياً، في ما أقول. هذه الحرب الإسلاموية “يجب” أن تندلع في كلّ بقعة إسلاموية على الإطلاق، و”يجب” أن تستمرّ، إلى أن تصل تماماً إلى جدارها التراجيدي المسدود، تماماً كما حصل في الحرب الدينية في أوروبا المسيحية سابقاً. “يجب” على الاسلامويين أن يفقأوا هذه الدملة ويفعلوا هذه الحرب، حتى آخر نفس، طالما أن أمنيتهم الوحيدة، أكانوا من هذا الطرف أم من ذاك، تحقيق دولتهم الدينية الموعودة، وولاية فقيههم. فلينغمسوا في الحرب حتى القعر. وليحفروا أعمق أعمق إلى أن ينشف الدم.
قبل أن يكتشف الظلاميون السنّة والشيعة أن لا فائدة تُرجى من الحروب الدينية، وأن الدولة الإسلامية، سنيّةً أكانت أم شيعية، لن تقوم لها قائمة، لن نصل إلى برّ أمان. خذوا أوروبا المسيحية سابقاً، مثلاً دموياً يُحتذى. لم تتخلّص أوروبا من المسيحية، كسلطانٍ أرضي وسياسي، إلاّ بعدما انكفأت المسيحية إلى حيث يجب أن تنكفئ، على وقع الدولة المدنية والعلمانية. نحن العرب لا نريد أن نتّعظ. ولا نعرف أن نتّعظ. إننا “عربٌ جربٌ” حقّاً، على ما تقول الفكاهة السوداء. وإذا من خلاصة، فلتُتخذ عبارة “العرب ظاهرة صوتية”، للأستاذ السعودي الكبير عبدالله القصيمي، هويةً فعلية: نحن العرب ظاهرة صوتية حقاً. فقط صوتية.
استحقاقنا العربي الوحيد، والاستحقاق الإسلاموي والإسلامي الوحيد، هو أوسمة التخلّف والذلّ والمهانة ومزبلة التاريخ.
في أواخر القرن الحادي والعشرين هذا، لن يكون على قيد الحياة منّا – والله أعلم – إلاّ الحديثو الولادة أو الذين لم يولدوا بعد. خذوها منّي: في أواخر القرن الحادي والعشرين هذا، يكون الإسلامويون، ومَن لفّ لفّهم من قَتَلة العقل ومن ملفّقي اللاهوت والملثّمين بأقنعة المفكرين والأساتذة والمؤرخين، قد اكتشفوا بعد الخبرة الدموية المديدة، أن الإسلام “يجب” أن يكون مكانه العزيز الوحيد في العقول والقلوب والكتب وأمكنة العبادة. تماماً، على غرار ما حصل في أوروبا، قبل قرون. في خلال ذلك، لا بدّ من أن يصل العماء الديني الإسلاموي إلى انتفاخه الأقصى. ما نشهده راهناً من هذا العماء، هو جزءٌ بسيط مما سيحصل غداً وبعد غد.
فليشهد لنا أولادنا وأحفادنا، والتاريخ خصوصاً، بالصواب أو بالخطأ، عندما يحين ذلك الموعد التاريخي المؤجل.
في خلال ذلك، ثمة مسؤولية تاريخية عظمى، لا مفرّ منها، عاجلاً أم آجلاً؛ مسؤولية تقع على عاتق الأزهر الشريف، باعتباره المرجعية الدينية المسلمة الأولى في العالم. يستند الإسلامويون والظلاميون الدينيون في مشروعهم التكفيري العمائي الأسود، سنّةً أكانوا أم شيعةً، دولةً دينيةً أم ولاية فقيه، إلى آيات محددة، نزلت في زمانها ومكانها التاريخيين، وضمن سياقاتٍ سياسية وحربية، محدّدة وآفلة، لم يعد لها وجود، ولا تبرير. فليُفتِ الأزهر الشريف إفتاءً نهائياً في هذا الشأن، وليملك الشجاعة الفقهية والروحية القصوى، لحسم هذه المسألة، لأننا في حاجةٍ ماسة إلى هذه الشجاعة، وليضع حداً فاصلاً لهذا الالتباس الديني – التاريخي – الجغرافي. لا مفرّ – أيها الأزهر الشريف – من هذه الكأس!
أعرف تماماً أن أصحاب الكلمة التنويرية وقادة الرأي الحرّ وحملة مشاعل الديموقراطية والقانون والحقّ والعدالة والثورة، قد لا يستطيعون – للأسف العظيم – أن يفعلوا شيئاً جديراً في هذه اللحظة المُهلكة. والحال هذه، فلتأخذ الهمجية الحربية والدينية والمذهبية والسياسية مجراها، وليكن ما يكون. وليعمّ القتل والموت والظلام. بعد أن ينتهي النزف الديني وحرب المقايضات، سيكتشف المشاركون في حفلات الدم والنار أن لا أحد يخرج منتصراً، وأن حكمة الدم والنار لا توصل إلى مكان. في تلك اللحظة بالذات، سيُسمَع بكاءٌ إسلاموي وإسلامي وعربي كثيف، ولن يكون ثمة مكانٌ للندم. الموتى يدفنون موتاهم. لكن الأحرار، والمتنوّرين، قَدَرهم أن لا يستسلموا للإحباط، بل أن يكونوا أساتذة الأمل. فليواصل سيزيف العربي صعوده إلى القمة حاملاً جلجلته على ظهره. ولا هوادة.

(النهار)

السابق
رجيم سريع المفعول في 3 أيام يمنع زيادة الوزن بعد الأعياد
التالي
طائرة استطلاع معادية تحلق فوق الوزاني وسردا