الألفباء في طبقات الشهداء

كيف ينقسم الشهداء إلى طبقات ويتوزعون على مدار أشهر السنة.. تنشر "جنوبية" نصوصاً من العدد الثاني من المطبوعة رقم 4 وهي دورية صادرة عن جمعية "هيّا بنا" وائتلاف الديموقراطيين اللبنانيين.

لا يحتاج المرء، (المرأة)، أن يكون قائداً عظيماً، أو صاحب ثراء قاروني، أو عالماً فذاً، أو مخترعاً فاتحاً، لا ولا يحتاج أن يكون عريق المَحْتِد، أو لقيطاً من أبناء اللعازرية، مؤمناً لا يقطع فرضاً، أو فاجراً لا تعتب عليه موبقة، لا ولا يحتاج أن يكون راشداً ذا زوجة وولد، أو رضيعاً لجوجاً في طلب الثدي والحنان، ولا يحتاج أن يحمل شهادة علمية وضيعة أو حتى رخصة سوق، بل لا يكاد يحتاج أن يكون من بني البشر لكي يجري عليه ــ سواء كان من طلاب الشهادة المتشوقين على أحرِّ من الجمر إلى ملاقاة الرفيق الأعلى أو من طلاب الحياة الدنيا المجتهدين في طلب ملذاتها ــ لكي يجري عليه لقب «شهيد». بل أكثر من ذلك: ليس لأحدٍ أن يضمن لنفسه ــ أو لمن يُحب أو لمن يكره ــ ألا ينتهي به الأمر شهيداً!

هو كذلك ولكن… الاشتراك في الموت ــ والموت للتذكير، شرطٌ لا تتم «الشهادة» بدونه ــ شيءٌ، والاشتراك في «الشهادة» شيءٌ آخر.

الموت يُصَحّحُ قول كعب بن زهير:

كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ

يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ

أما الشهادة فتُكَذّب الحديث الذي مفاده أنَّ «النَّاس سَواسِيَة كَأسْنانِ المِشْط»… وهنا بيت القصيد، أو أحد بيوته: الموت ملك لصاحبه حتى عندما لا يبقى له من دنياه شيء على الإطلاق، أما «الشهادةُ» ــ ولو من باب المجاملة، ولو ليوم واحد ــ فللأحياء مِن الأهل والورثة والأخوة والأصدقاء والرفاق والمحبين والمبغضين…

يوماً ما، قد ينكب أحدهم على دراسة إحصائية يتحصل منها أي البلدان هو السبّاق في تدوير الموتى «شهداء»، وقد يتعمق في النبش فيكتشف أن لصناعة التدوير هذه صَرْفاً ونَحْواً يختلف من بلد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى وهكذا… وإلى أن يكونَ ذلك، وأن ينالَ صاحبنا شهادةً عُليا في «الشهادَتولوجيا»، يمكن الجزم باطمئنان أن لبنانَ ــ لبنانَ البلد والجماعات ــ يتبوأ محلاً مرموقاً في قائمة البلدان المنتجة المستهلكة المورِّدة المستوردة لـ «الشهداء»؛ وليس هذا الجزم من باب الانطباع والتخيل بل أمر واقع، وحقيقة مؤكدة، بشهادة المنافسة غير المشروعة بين هؤلاء «الشهداء»، برعاية ورثتهم وأولياء دمهم، وبين اللبنانيين، في شتى مرافق الحياة العامة، والخاصة أحياناً. وإذا كانت هذه المنافسة ليست بالأمر الجديد حقاً، فَلَعَلَّ من أخطر ما تطورته على مرّ السنوات أنَّها باتت حاكِمَةً على المفصل من مرافق الحياة اللبنانية العامة: «الحياة السياسية».

لا يضير شباط أن يكون الأقل أياماً بين أشهر العام؛ وسواء عابَت قلة الأيام هذه شباط أو ميزته، يبقى شباط، في لبنان، شهر «الشهداء» بامتياز وبلا منازع، ولأنه كذلك فلا مبالغة في القول إن لبنانَ أشبهُ ما يكونُ خلال هذا الشهر ببلدٍ تَحْتَ الاحتلال: تحت احتلال «الشهداء»، لا سيما الشين شين منهم: شهداء شباط أو كما يحب صديقي أن يسميهم: «شهداء البزنس كلاس»… ثم يمضي شباط، إلى رجعةٍ موعودة، ويُوَضّبُ الورثةُ والأولياءُ مومياءاتِ «الشهداء» في لفائفها ويبقى الاحتلال، ويمضي في توسعه بهمّة «طلاب الشهادة»، وأحياناً كثيرة على حساب المُسْتَشْهَدين بين يدي الصُّدَفِ ــ صُدَفِ المكان والزمان ــ بلا همّة مهمومة، ولا طلب مطلوب، ولا من يحزنون…

بالطبع، لا شهرَ من الأشهر يخلو من «الشهداء»، ومن تذكير اللبنانيين بأنهم «تحت الاحتلال»، ولكن لا شَهْرَ كشباط هذا، الشهر الثاني من عام 2015 الذي يُحيي فيه اللبنانيون الذكرى الأربعين على اندلاع «الحرب»، فضلاً عن ذكريات أخرى، لِقَطْعِ حساب (موقت) مع «الشهداء»، واستطراداً مع ورثتهم وأولياء دمهم، وللهمس في آذانهم بأننا نضيق بهم ذرعاً، وبأن احتلالهم، ككل احتلال، إلى زوال… حيَّ على المقاومة!

السابق
تحليق اسرائيلي في سماء الجنوب
التالي
بالصورة: ماريا معلوف تناشد الملك سلمان ليقضي على الضاحية الجنوبية