ليتها إمبراطورية إيرانية.. لكن هيهات!

كلّما نطق مسؤول ايراني بشهوة امبراطورية أخذنا ذلك على محمل الجد فوق اللزوم. قطعاً، المسؤول في هذه الحالة لا يمزح ولا يشرد، والشهوة الامبراطورية التي يعبّر عنها تضاف الى الملفات الحافلة التي توثّق السياسات الفوقية والتوسّعية والتفتيتية التي تغلب على سلوك «الجمهورية الاسلامية» بازاء العرب، والتي تزيّن لنفسها في الوقت نفسه. لكنْ أن لا يلحظ في هذه الشهوة الامبراطورية استحالتها وبالتالي عبثيتها، والضيق الايراني من أن تكون بلاد العرب سائبة الى هذه الدرجة، وغير مطواعة في الوقت نفسه للتشكّل في نسق إيرانيّ له ما يقارن بالغابر الساساني أو بالماضي الصفوي، فهذا ما ينبغي ألا يغيب.

ولو قلّبنا المسألة، لجاز السؤال، حقاً، ما الضير، لو أنّه بمستطاع إيران أن تجمع شتات الشرق الأوسط في نسق امبراطوريّ تكون هي محوره، فتتعاون شعوبنا وتتجاور بسلام واعتزاز فنصير بقيادتها تكتلاً اقليمياً يحسب له حساب؟ لكن هيهات. ليس بمقدور إيران ذلك، ولو أنقدها الغرب السلاح النووي مجاناً! ليس بمقدورها ذلك، ولو تصدّعت وتفسّخت معظم البلدان العربية! ليس فقط ليس بمقدورها ذلك، بل إن كل سياساتها في البلدان العربية تبعدها عن ذلك. وليكن هنا العراق مثالاً: في حالته، لا عودة لأي نوع من التركيب الوطني إلا بتحجيم النفوذ الإيراني فيه، وهذا ينطبق طبعاً على سوريا ولبنان واليمن.

لكن التحجيم المقصود هنا يتعلق بالأدوار الأمنية لإيران وأذرعها، وليس أدواراً اقتصادية أو ثقافية أو حتى سياسية بالمعنى الذي يمكن أن يستتب بين البلدان والشعوب المختلفة حول سياسة، فهذه محجمة سلفاً، والى حد كبير بسبب من السياسات الأيديولوجية والأمنية للجمهورية الإسلامية.

لو كان لإيران مشروع امبراطوري لربما اقتضت الحيوية مناقشته إيجابياً. لكن الشهوة الامبراطورية هي احتقان وأسى وحنين وأوهام وليست مشروعاً، ولا تكتيل الشعوب في وارد أصحاب هذه الشهوة، ولا علاقة جدية لتقدم شعوب المنطقة وتحررها بما تحتسبه هذه الشهوة وما تبثه.

كما أن إيران الحديثة لم تحسم تركيبتها الداخلية نمط وجودها وإدارة هذا الوجود. أدولة أمّة هي، أمّ إمبراطوريّة هي؟ التهجين بين النمطين ليس تأليفاً من تلقائه. صحيح أنها تملك معدّلاً قويّاً نسبياً من المتانة الداخلية، لكن كل هذه الفسيفساء الإثنية والمناطقية والمذهبية داخلها تتناقض مع السمات الثلاث، مركزية الدولة، وتهميش الأطراف التي هي معظم البلاد، وكون نسبة الفرس دون الأكثرية المطلقة من الإيرانيين. لن يفرط العقد الإيراني غداً، لا بمشكلة آذارية، أو قزوينية، أو كردية، أو أهوازية، أو بلوشية. لكن الإشكال الكياني عبثاً تتجاوزه إيران بالمكابرة. وكما أنّ الهند تعيش اليوم ربيعاً فيدرالياً جديداً، حيث تطالب مناطق كثيرة بأن تصير ولايات قائمة بذاتها، وكما أن المشرق العربي يعيش تفسّخاً أهلياً بين أقاليم الكيان الوطني الواحد، فإن الجسم الإيراني لا يمكن أن ينظر إليه بمعايير المركزية التي تقوم عليها الأمة الفرنسية مثلاً في عالم اليوم.

المركّب الأمبراطوريّ الذي تقوم عليه، جزئياً، إيران، يفرض إذاً، أوّل ما يفرض، معالجة الواقع الإشكالي للعقد المبهم، بل المؤجّل بين الشعوب الإيرانية، والتي لم تستطع الثورة الإسلامية إنجازه إلا بشكل جزئي. إصرار كل من تركيا وإيران على مركزية الدولة فيهما، وعلى صدّ السبيل لأي طرح فيدراليّ داخل حدودهما، يعوق الى حد كبير ترشيد أثر هاتين الدولتين في الإقليم. الأيديولوجيا، وإمداد الحركات الشيعية المسلّحة، وإدارة الحروب الأهلية في المشرق العربي، ووراثة الصراع العربي – الإسرائيلي عن أهله، لن يبدّل كثيراً في أساس المشهد: إيران دولة عاجزة حتى الآن عن التأليف بين بعديها، كدولة أمة، وكتركيبة أمبراطورية، ولا يمكنها أن تنجح أساساً في ذلك، إلا بانتهاج سبيل الفيدرالية، بنزع المركزية ومعالجة تهميش المقاطعات الشاسعة.

كما أن إيران، الحائرة بين الدولة الأمة والمركب الامبراطوري، تحمل أيديولوجيتين في وقت واحد: القومية والإسلاموية. وتحوي كل من الأيديولوجيتين على مشكلة مستعرة. بالقومية تفترض مفاصلة مع القوميات الأخرى، مثلما أنها، في اتجاه معاكس تنحو الى التوسع والتضخم. والإسلاموية، تنحو الى الأممية – يا مسلمي العالم اتحدوا، مثلما أنها تنحو الى الفئوية المذهبية، في اتجاه معاكس هنا أيضاً للأوّل.

ثم إنّ إيران دولة فشلت في القرن الأخير في تقديم أي نموذج تحديثي في الاقتصاد والعمران يمكن التبشير به في الإقليم. تركيا بمستطاعها ذلك إلى حد ما. لكن إيران؟ هيهات! الثورة الصناعية الآسيوية المعاصرة تمتد حالياً من أقصى جنوب شرقي آسيا حتى الباكستان، بكل ما في البلد الأخير من تفسّخ ومصاعب، لكنها تتوقف عند حدود إيران. الثورة الإسلامية فجّرت طاقة حيوية في المجتمع الايراني لكن هذه الطاقة لم يوجه منها إلا الشيء القليل للدخول في ركب الثورة الصناعية الآسيوية. بقيت دولة ريع نفطي بالدرجة الأولى لأن نظامها بقي نظام الحرس الثوري الراعي لهذا الريع النفطي بالدرجة الأولى. بهذا تشكّل امبراطورية؟ عبث.

(المستقبل)

السابق
النائب العام المالي يرفض تخلية العميد المتقاعد الموقوف ابرهيم البشير
التالي
الفلسطينيون في سوريا