البلادة والإرهاب

– 1 –

قد يُعلن تشكيل «قوة عربية مشتركة» بين لحظة وأخرى، وقد لا يعلن أبداً. الاحتمالات كلها مفتوحة حتى والأخبار عن وجود بشائر من هذه القوات على الحدود الشمالية للسعودية، أو الكلام المباشر الذي قاله الرئيس السيسي في حديث افتتح به سلسلة لقاءات تلفزيونية شهرية مع «الأمة» أو «الشعب».
القوة العربية غالباً ستتركز مهماتها في الجبهة الشرقية للحرب مع «داعش..» أما الجبهة الغربية فستترك لمصالحات تتم بمنطق «العيش المشترك» كما يُقال عنها في أوساط تتردد أمام «الحل العسكري» الذي أراد السيسي تحريكه بالضربة الجوية التي أصابت، حسب نص كلامه، 13 موقعاً تخص «داعش» في ليبيا.
حديث السيسي كان مشحوناً بمادة صالحة للإثارة بين طرفي الاستقطاب، لكنه في مستوى آخر اقترب أكثر من صورة «رئيس ما قبل الثورة» المروّض، الواعد، المتحكّم في كل الأدوات… إلى آخر ما تمليه كتالوغات حكام الجمهوريات بعد المرحلة الاستعمارية.
وفي إطار ترسيم الصورة مرّت إشارات صغيرة عن «انفتاحه على كل العالم» بما في ذلك أميركا التي يعزف في الإعلام المؤيّد مارشات العداء لها. السيسي وصف العلاقة الأميركية المصرية بأنها «تحالف إستراتيجي».
وفي هذه التأكيدات استجابة للفصل بين الضربة الجوية (الضرورية) كعنصر من عناصر تحريك الموقف الدولي من تنظيم «الدولة» وبين مشاركة مصر في حل المتاهة الليبية… هذه الاستجابة لن تعرف حدودها إلا بمتابعة مقياس الدعم للواء (أو الفريق أول بعد ترقيته) حفتر، البعيد عن أجواء المصالحة، والأهم في التعامل مع «داعش» بمنطقه، لا بمنطق الحرب ضد الإرهاب الإسلامي في مصر التسعينيات أو المشاركة الرمزية في الحرب ضد « القاعدة» بعد أيلول 2001.
هل هناك سياسة يمكنها أن تواجه الإرهاب؟
– 2 –
من البلادة إلى الإرهاب…
يتجسّد الانتقال في المنطقة العربية مخيفاً بعد سقوط قشرة الاستبداد الأولى. بلاد عاشت من دون سطوة الدولة مثل لبنان حلّها في تمتىن الدولة، وبلاد ابتلعت الدولة ومخابراتها كل مكوناتها الأخرى مثل العراق وسوريا وليبيا تحولت الدولة فيها إلى «ديناصور جريح» ما زال مدمراً، لكن هناك من يعتبره تدميراً محبباً، يحافظ على أطلال ما تبقى، مقارنة مع الوحش القادم بشياطينه الكامنة بين شقوق لا نراها، وتنفتح فجأة بجوارنا، جوارنا تماما.
كيف نعرف مصدر الأموال التي كوّنت «داعش»؟ وهل اختيار جناح معارض لبشار الأسد باتفاق تركي ـ أميركي سياسة صحيحة؟ أم أن المؤامرة تلد مؤامرة نقيضة ؟ ورعب القوة المطلقة التي تحكم العالم بنظام محكم، لن يقابلها سوى رعب قادم من ثقب الشياطين الإرهابية؟
الوضع قريب إلى ما قاله جان بودريار في إطار تحليل «ذهنية الإرهاب» بعد سقوط برجي نيويورك: «رعب مقابل رعب. ولم يعد هناك، وراء كل هذا، أي بُعد أيديولوجي، لقد أصبحنا بعيدين جداً من كل أيديولوجيا وسياسة…».
الصراع على «الطغيان..» هو جحيم كاشف لهشاشة كل التكوينات المسيطرة/أو التي ناضلت من أجل سيطرتها البديلة/ هشاشة تتفوّق على قسوة الدمار والموت المحيط.
هذه الهشاشة بذاتها، وعندما تفقد معها الصيغ القديمة سيطرتها، هي التي تمنع الوصول إلى «الانفجار الكبير». فالرعب يأكل بعضه بعضاً. بينما رغبة الحياة في مكان آخر.
– 3 –
ينتهي استبداد الدولة إلى عصابة ذات طبيعة مافيوية.
هذا ما تقوله الكتب والخبرات.
أما الإرهاب فيرتبك التوقع: متى تكون نهايته.
الإرهاب في حد ذاته نهاية وبداية. نهاية السيطرة الكاملة. طموح ويأس. وهذا ما يقوله «داعش..» باسمه التجاري ووقعه الصوتي الذي يجعل من تنظيم «الدولة..» وحش الوحوش السابقة والتالية.
«داعش» تنظيم ما بعد حداثي، يواجه أنظمة ديناصورية تعجز معدتها عن ابتلاع كل شيء، يتمدد «داعش» من المشرق إلى المغرب بكل ما أوتي من قدرة على التهام الدول، وبكل ما يمتلكه من خفة تنظيم «ما بعد حداثي» يعيد تركيب نفسه عبر الصورة والشعار، لا يلتفت كثيراً إلى الفتوة والفقه، حتى أن داعية إعلانياً من دعاة «داعش» في أحد استعراضاته الدموية لم ينشغل كثيراً بالسند النظري أو المرجعي الشارح لمقولة صادمة تصف النبي محمد بأنه «المبعوث بالسيف رحمة للعالمين..»، كان مجرد شعار صادم ينتعش بالصدمة والدهشة (من قطاعات تربّت على أن الإسلام لم ينشر بالسيف) أكثر من النقاش، ويوقظ كل المشتاقين إلى أدرينالين جماعي يفجّره عنف «أندية القتال»، أولئك الرومانتيكيين الذين يعيشون في شقوق مجتمعات تعيش على التوافق والاندماج والتواطؤ مع «العنف الكبير» الذي تمارسه أنظمة السيطرة والتسلّط الشامل الكامل وتغطّيه شعارات فاتنة.
عنف المافياوات السلطوية ليس سبباً مباشراً وأتوماتيكياً لعنف «الدواعش» كما تقول التفسيرات الأكاديمية الكسولة أو التحليلات الساذجة، لكنه ينتج فائضاً ضخماً من العنف، تعيد «الداعشية» تركيبه في سياقات منافسة/لا رد فعل/ ولا أحداث عارضة تحتاج إلى مؤسسات الترويض الكلاسيكية من اعلام ومشايخ/ لكنها تحتاج إلى إنهاء عنف السيطرة والتسلّط، وأنظمة تحتكر السلطة والثروة بكل ما أوتيت من سلاح.

(السفير)

 

السابق
نقل «الرفات» على أنقاض جثة تتحلّل
التالي
لائحة اغتيالات «داعش» في لبنان…واقع أم فبركة غرف سوداء؟