أطفال سوريا بين الأغاني والرصاص

“أيَّتُهَا الخُوذَاتُ البَيْضَاءُ حَذَارْ مِنْ طِفْلٍ نَبَتَتْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ النَّارْ

مِنْ طِفْلٍ يَكْتَبُ فَوْقَ جِدَار، يَكْتُبُ بَعْضَ الأَحْجَارْ، وَ بَعْضَ الأشْجَارْ، وَ بَعْضَ الأَشْعَارْ”.

لم يكن ليتوقع أحد أن بضع كلمات خطَّتها أصابع أطفال درعا على جدران مدرستهم، ستكون شرارة لانتفاضة شعبية تعم كل أرجاء سوريا. هذه الثورة سطرت أروع مشاهد التضحية والعطاء في سبيل الحرية التي غابت عن حياة السوريين طوال عقود. فأين أطفال سوريا من الثورة التي كانوا شعلتها بعد مرور عام ونصف عام عليها؟
ما ميّز الثورة السورية أنها اندلعت على يد أطفال، استطاعوا ببراءتهم واندفاعهم وتأثرهم بما حصل في تونس ومصر، أن يحطموا جدران الخوف في قلوب ملايين السوريين. واستمر دور الأطفال المؤثر، فبأصواتهم وخواطرهم وأقلامهم رسموا وأرّخوا رؤيتهم. والمتابع لمجمل الصور ومشاهد الفيديو التي نُشرت عبر صفحات التواصل الاجتماعي والفضائيات للتظاهرات في معظم المدن والقرى السورية، يجد أن حضور الأطفال كان لافتاً وفاعلاً عبر المشاركة في الهتاف والأغاني التي حفظوها عن ظهر قلب، وفي رفع اللافتات التي خطُّوا عليها همومهم، مثل: “ارحل، اشتقنا إلى توم وجيري” وغيرها من العبارات التي تعَّبر عن الأسى والألم والإحساس بالفجيعة لديهم.
شكلت مشاركة الأطفال خلال التظاهرات والتجمّعات الشعبية والمشاركة في الأهازيج والدبكات والرقصات احتفاءً بالحرية، لاسيما في الأرياف، واحداً من أجمل جوانب الثورة المضيئة. فمشاركة الأطفال في هذه اللحظات المصيرية، تكرس وعياً مبكراً بمعنى الوطنية والانتماء وتفتح أفقهم على مبادئ وقيم ثورية حقيقية عايشوها بأنفسهم. ومازالت ماثلة أمامنا انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين، نهاية الثمانينيات، في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية.
بعد عامٍ ونصف على اندلاع الثورة السورية، كان الأطفال الضحايا الأكثر استهدافاً لكونهم الأقل قدرة على حماية أنفسهم أو الهرب. حيث وصل عدد الشهداء الأطفال حتى الآن حوالي 2870 طفلاًمن أصل 35933 شهيداً (الإحصاء لم يشمل إلا الأطفال الذين هم دون سن السادسة عشرة، مع أن”اليونيسيف” وكل القوانين الدولية عرَّفت “الطفل” بأنه كل إنسان ما دون سن الثامنة عشرة). وقد اختلفت ظروف استشهاد الأطفال وتراوحت ما بين الموت بسبب القصف والطلق الناري والقنص إلى التعذيب والذبح والحرمان من العناية الطبية وأسباب أخرى غير موثقة.
يواجه الأطفال الذين باتوا جزءاً من هذا الصراع الدائر، شاؤوا أم أبوا، وضعاً مأساوياً دامياًمن شأنه أن يثير في نفس الطفل الخوف والهلع والضغط العصبي الذي يتزايد يوماً بعد يوم. فما يشهده الطفل من حالات قتل وجثث مشوّهة وغيرها، غالباً ما يخزنها وتظهر في رسومه وكتاباته أو حركاته وأثناء لعبه مع الصغار. كما تنعكس على مشاعره التي تصبح مليئة بالخوف وعدم الشعور بالأمان والكراهية والشك والإحباط والقلق المستمر.
الطفل السوري اليوم فُرضَ عليه أن ينشأ في مناخٍ غير طبيعي من المعاناة والحرمان والرعب والفقر وشبه انعدام التعليم، وهذا يستدعي دوراً كبيراً من الأهالي والجمعيات الأهلية والمدنية للتخفيف من معاناة الأطفال النازحين والناجين، عن طريق شرح أسباب المعاناة. هذا من شأنه أن يرفع معنويات الأطفال ويخفف آلامهم.
وقد برزت مجموعة من السلوكيات الخاطئة في سياق العمل الدعاوي للثورة، بهدف حشد جهود الفئات الشعبية كافة للعمل المسلح: منها القيام بنشر صور لأطفال بأعمار مختلفة يحملون الأسلحة النارية وشعارات تمجّد العمل العسكري والموت، أو الزج بهم في عمليات عسكرية تعرضهم لخطر الموت والاعتقال، إضافة إلى الآثار النفسية الخطيرة التي ستبقى عالقة في نفوسهم. فمن واجب من حمل سلاحاً دفعاً للظلم أن يحترم قواعد القانون الدولي الإنساني المطبقة في حالة النزاعات المسلحة التي تؤثرعلى الأطفال بخاصة، وتقديم الحماية لهم وإبعادهم عن أماكن الخطر والاشتباكات، ومنع اشتراكهم في أي عملٍ عسكري. فالقانون الدولي يعتبر أن تجنيد الأطفال في أي عمليات عسكرية، هو من “جرائم الحرب” أيضاً. لقد حصل في التاريخ القريب ما بين (1982-1985) مشاركة للأطفال الفلسطينيين الموجودين في مخيمات لبنان بأعمال عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي. وهذا الفعل كانت له ربما بعض مسبباته. وقد دُهش قادة العدو العسكريين من قدرة الأطفال – لاسيما في مخيم عين الحلوة- على المواجهة العسكرية للجيش الإسرائيلي وإنزال الخسائر به. ولكن ما حصل ترك جدلاً واسعاً آنذاك حول جدوى مشاركة الأطفال في أي أعمال عسكرية تسيء للطفل وحقه في الحياة.
أطفالنا عاشوا معنا موجات متقلبة ومتتالية من التحدي والقلق والخوف والسعادة والحزن والأمل والتضحية. وإن كان النظام قد أمعن قتلاً وإرهاباً بأطفال سوريا، فواجبنا توفير الظروف المناسبة كي ينشأ الأطفال في بيئة حرّة وبعيدة عن ثقافة الموت والقتل. وكم كان الشاعر الفلسطيني راشد الحسين مصيباً عندما قال:

ضد
ضد أن يجرح ثوار بلادي سنبلة
ضد أن يحمل طفل – أي طفل –
قنبلة
ضد أن تدرس أختي عضلات البندقية
ضد ما شئتم…. ولكن
ما الذي يصنعه حتى نبي أو نبية
حينما تشرب عينيه وعينيها
خيول القتلة

(السفير)

السابق
لم تسقط كوباني… لم تسقط داعش
التالي
صناعة الاستبداد