السيّد الأمين: المؤسّسات الدينية تنشر الغلوّ والتعصّب‎

وجّه سماحة العلّامة السيّد محمد حسن الأمين رسالة قويّة وقاسية اللهجة إلى رجال الدين والمؤسسات الدينيّة، فحمّلهم، عبر "جنوبية"، مسؤوليّة نشر الغلوّ والتعصّب، واتّهمهم بالتقصير في مكافحة التطرّف الذي يستفحل وينتشر في مجتمعاتنا.

أكثر من غيره يؤرّق الغلو الديني مجتمعاتنا العربية، بوصفه تهديدا خطيرا لاستقرارها ومانعا من موانع تطورها وتقدمها، فهو آفة خطيرة كونه شكلا من أشكال التطرف الفكري الذي يعتبر من المصادر الأساسية لتفكك المجتمعات وتمزيق النسيج الاجتماع فيها.

يعتبر المفكّر الإسلامي سماحة العلامة السيّد محمد حسن الأمين أنّ “ظاهرة التعصب والغلو لم تنشأ من منشأ سلبي في الأصل، ففي بدايات اختلاف آراء الفقهاء والمتكلمين كانت هذه الظاهرة مظهراً من مظاهر الاجتهاد. واختلاف الرأي لا يقوم على خلفيات عدائية، بل كان صورة متقدّمة من صُوَر حرية الرأي وحرية الاختلاف. وهكذا نشأت الكثير من المذاهب الفقهية والكلامية، ولم يكن لهذا النوع من الاجتهاد والاختلاف تأثير سلبي على العلاقة بين الرؤى والأفكار المختلفة، وذلك لأنّ هذا الاختلاف كان صورة من صور الإبداع والحيوية الفكرية، لكن عندما تحوّلت هذه المذاهب والاتجاهات إلى أفكار مقدّسة، وانتسب إليها عوام المسلمين، بدأت تأخذ صورة التعصب والتشدّد وتنحو إلى تكوين جماعات مفترقة لا يرتقي الاختلاف بينها إلى مستوى الحوار والتفاعل الإيجابي، ولأسباب بعضها، بل الكثير منها، سياسيّ، تحوّلت هذه المذاهب إلى ما يشبه العقائد الجاحدة والأفكار الفقهيّة غير القابلة للنقاش ولإعادة النظر”.

ويؤرّخ السيّد الأمين أنّ “ما يسمّى في نظري عصر الانحطاط والتراجع على صعيد الفكر الإسلامي تبعته صور سلبية من الانحطاط على مستوى الاجتماع الإسلامي نفسه، وهو الذي طبع هذه المرحلة، فباتت المذاهب تبدو أحياناً كأنّها أديان مختلفة وليست آراءًا مختلفة، ومن المؤسف أنّ المحاولات القليلة التي اتجهت إلى الإصلاح وإلى التجديد في النظرة إلى اختلاف المذاهب لم تكن كافية لإعادة الجمهور الإسلامي عامة إلى المراحل السابقة والإيجابية في تعاطيها مع هذا الاختلاف. وفي هذا المجال نذكر محاولات عصر النهضة الجديد في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حين برزت اتجاهات إيجابية لجهة الدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي، وشهدت تلك المرحلة نزعات إبداعية في النظر إلى الاختلافات الفقهية والعقائدية بين المسلمين من المؤسف أنّها تراجعت ولم تتقدّم. ثم تناسلت هذه الظاهرة المؤلمة التي يزخر بها وضعنا الراهن، وأعيد ذلك إلى أسباب متعدّدة، أبرزها في نظري تراجع درجة الوعي والنظرة إلى الدين عموماً وإلى مقاصد الشرع الإسلامي خصوصاً. وأضيف إليها الدور السياسي الذي تمثله الأنظمة السياسية الفاشلة، التي شجّعت بصورة  مباشرة أو غير مباشرة هذا النوع من الصراع المذهبي بهدف دفع الناس للالتفاف حول الحاكم الذي أراد أن يظهر نفسه بوصفه حامياً للمذهب أو الطائفة التي يمثّلها، ما كرّس العصبية الدينية والمذهبية على حساب المقاصد الحقيقية لوظيفة السياسة بوصفها منهجاً لقيادة التطوّر والتنمية وإرساء أسس العدل والمواطنة بين الشعوب”.

وبالنسبة لما يثار في الأندية الفكرية والثقافيّة حول مسؤوليّة تراثنا الديني بما فيه من أحاديث تحضّ على الغلو التعصّب للجماعة، يوضح السيّد الأمين: “بصورة عامة يمكن للاتجاهات ذات النزعة العصبويّة الدينية والمذهبية أن تستند إلى أحاديث ومرويات كثيرة لتبرير تعصبها وانغلاقها، وفي الحقيقة أن كثيراً من هذه الأحاديث والمرويات يستند إلى “الشياع” (أي الانتشار العشوائي غير المسند) دون التدقيق في مصادرها. مع العلم أنّ بعض هذه الأحاديث، إذا صحّ وجودها، فهي إما قابلة للتأويل أو أنّها مرتبطة بظروف تاريخية محدّدة، ومع ذلك فإنّ ما يقابلها من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية داعية إلى الوحدة والتكامل والتفاهم يفوق عشرات المرات تلك الأحاديث المزعومة، والسلبية”.

ويضرب سماحته مثلا يتعلّق بحديث نبوي مثير للجدل وهو حديث “الفرقة الناجية” ومضمونه ان الأمة الإسلامية ستنقسم بعد وفاة الرسول الى 72 فرقة وواحدة فقط هي هي الفرقة الناجية، فيشرح السيّد أنّ “الفرقة الناجية هي مؤلفة من مجموع 72 فرقة على نحو يمكن القول فيه إنّها سُمّيت فرقة لأنّها ناجية، ولم تسمَّ ناجية لأنّها واحدة من هذه 72 فرقة، أي أنّ في كلّ فرقة من هذه الفرق هناك ناجون يشكلون بمجموعهم فرقة ناجية”.

ويوجّه السيد محمد حسن الأمين رسالة قويّة وقاسية اللهجة إلى رجال الدين وللمؤسسات الدينيّة ويتّهمها بالتقصير في مكافحة ظاهرتي الغلو والتعصّب التي ما زالت تستفحل وتنتشر في مجتمعاتنا، فيقول: “بالنسبة إلى دور رجال الدين في بثّ روح الاعتدال، فقد يكون الكلام عن دور المؤسسة الدينية قاسياً وخطراً لجهة الدور الذي تطلّع به كثير من هذه المؤسسات، وهنا يأتي التحدّث عن مؤسسات وليس عن أفراد عظماء ومخلصين من علماء الدين، بل عن المؤسسة التي هي في تكوينها وفي طبيعتها ميّالة إلى الانحسار والتقوقع داخل إطار المؤسسة، ومنها تستمدّ في كثير من الأحيان مصادر قوّتها وصمودها في تعزيز نزعة التمذهب وفي التراخي والإهمال تجاه نزعات الغلو التي تنشأ في طوائف ومذاهب هذه المؤسسات”.

ويتابع: “من وجهة نظرنا فإنّ هذا يعود إلى عارض تاريخي شاذّ يتصل مباشرة بما يتنافى مع كون الإسلام ديناً وليس مؤسسة، فمن الخطر بمكان أن تقوم داخل الإسلام مؤسسات دينية لأنّ أحد أهم سمات المؤسسات هي في النظر إلى مصلحة المؤسسة، وهذا ما نلاحظه في كل المؤسسات التي تغدو فيها المصالح، أي مصالح الجماعة المنتمية إليها، متقدّمة وهدفها مواصلة السير على مبادئ هذه المؤسسة، وهذا ما أفسد الكثير من  المؤسسات الإسلامية”.

ويختم سماحته قائلاً: “إنّ الغلوّ الديني هو صورة بليغة من صور ترسيخ عملية الانتماء إلى مذهب ما أو إلى عقيدة ما ونزعة سخيفة من نزعات ربط الجماعة بعقيدة المؤسسة (على حساب الدين أو الجماعة أو المسلمين ومصلحتهم المشتركة أحياناً) كما أنّها صورة من صور استبعاد وظيفة الحوار والتفاعل الفكري والاجتماعي بين المذاهب والطوائف المختلفة، كما أنّ الغلوّ هو في جانب أساسي منه عدوان على العقل واحترامه بوصفه مرجعاً لكل فكرٍ بما فيه الفكر الديني نفسه”.

 

السابق
مقتل 50 متشددا في الضربات الجوية على «داعش» بليبيا اليوم
التالي
ما بين جبل عامل وسوريا (10/3)