مابين جبل عامل وسوريا(10/2)

… وفي تقريره من مدن الساحل يتضح الفارق الاجتماعي الذي يمليه التنوع العلوي السني المسيحي ولا سيما من “العاصمة” اللاذقية حيث “الطرق الواسعة والأحياء اللطيفة وفيها عمارات بديعة متقنة أكثرها للمسيحيين…”.

الرحلة تمّت عام 1924 وكُتبت خلال العامين 1924 و1925 وصدرت تباعا في ما صنفته المجلة على غلاف كل عدد بأنه المجلد العاشر. اذاً تمّت بعد سنوات قليلة جدا من انهيار الامبراطورية العثمانية ونشوء وحدات سياسية جديدة في بلاد الشام تحت السيطرة الغربية الفرنسية. وضع جديد كليا كهذا كان لا بد انه يشهد حراكا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا جديدا تتشكل معه انفتاحاتٌ بين المناطق والطوائف بحكم التحولات التحديثية التي حملتها الدينامية الاستعمارية. وهي تحولات كانت تبلور انغلاقات موازية في شخصيات الجماعات ووعيها لنفسها سواء اتجه هذا الوعي ضد “النظام” الجديد او معه. لا شك ان العلويين كالجماعات الأخرى في بلاد الشام كانوا جزءا من هذا التبلور الانفتاحي – الانغلاقي الذي كان من معالمه ايضا انقسام نخب كل جماعة بين خيارات سياسية متصارعة مطروحة.

رحلة الشيخ عارف وتحديدا في جزئها العَلَوي كانت احد شواهد عديدة لنزوع الطائفة العلوية للبحث عن، بل تأكيد، توازن عالمها المستجد بعد 1920 في انفتاحٍ بل سعيٍ الى وصل علاقة مع الجماعة الشيعية الجعفرية وتحديدا في جبل عامل حيث الحيوية الدينية للطائفة لأن المنطقة الشيعية الأخرى شبه المجاورة لمناطق العلويين اي الهرمل والبقاع الشمالي كانت هي نفسها فقيرة من الناحية الدينية ان لم نقل مقفرة وتحتاج الى مد جسور مع جبل عامل الأنشط دينيا وانما الناهض بدوره من سنوات عزلة اقتصادية طويلة على هامش دمشق والقدس وجبل لبنان. لكن هذا حديث آخر. انما لا يجوز عبور الموضوع الشيعي البقاعي عند هذه النقطة دون الاشارة الضرورية الى ان نخب البقاع الشيعي الشمالي الميسورة اقتصاديا كانت تشهد في صفوفها تبلور حيوية حداثية على مستويات أخرى تحت تأثرها بديناميكيتين كانت مدينة بعلبك تقع بين جاذبيتيهما وهما البورجوازية المسيحية المحلية الموصولة بزحلة وبيروت والبورجوازية الدمشقية الراسخة.

ستتحول “العرفان” بشكل طبيعي الى احدى مواد انفتاح نخب متعلمة للطائفة العلوية بمعنيين للانفتاح: الاول عبر متابعة ثقافة حداثية وافكار سياسية شديدة الراهنية بين الوطنيات والكيانيات المتصارعة وهو ما مثلته “العرفان” لفترات طويلة في النجف وبغداد وبعض الحواضر العراقية ولكن ايضا في ارياف وحواضر سورية وعراقية ولبنانية وفلسطينية غير شيعية وأبعد (اخبرني مرة في باريس الصديق والزميل المغربي الكبير المرحوم الباهي محمد ان خاله لأمه الموريتاني رحمة الله ولد بابانا كان ينتظر وصول “العرفان” في منطقته على الحدود الموريتانية السنغالية).

… اما المعنى الثاني فهو في الحراك الذي سيتجاوز “العرفان” بل ينساها لاحقا في جيل آخر عندما سيتحول الانفتاح الاجتماعي الديني الى “نواة تشيع” سياسي مع السيد موسى الصدر بعد تراكمات نصف قرن تبدأ مع علويي طرابلس وليصبح الحراك مع حافظ الاسد رئيسا في دمشق منظومة سياسية اقليمية بقيادته ستغير بنية قيادة الطائفة الشيعية في لبنان وبالقوة حين يلزم الامر مع ان الانقلاب السياسي يعكس تبدلا اجتماعيا عميقا هو الذي استقبل في الستينات الظاهرة الصدرية من ضمن متبدلات عميقة ايضا في طوائف أخرى.هذا التحول الذي سيصبح كاسحا سوسيولوجياً وسياسياً مع انتصار الثورة الخمينية رغم انه ووجه دائما بممانعات نخبوية شيعية لبنانية وتحديدا بين المثقفين. لكن هذه الممانعات اصبحت بلا مشروع يحضنها فسحقتها راديكالية الاحداث في لبنان والمنطقة لاسيما في المرحلة الاخيرة عبر التشكل الطائفي العصبوي لمعظم النخبة السنية اللبنانية وراء المحور الحريري السعودي في مواجهة المحور السوري الايراني ذي الامتدادات اللبنانية البالغة التأثير والمجازفة. بهذا المعنى يمكن القول عن الشيعة اللبنانيين: حافظ الاسد غيّر قيادة الطائفة بينما الايرانيون غيّروا الطائفة!

كان الشيخ احمد عارف الزين وهو يقوم بجولته لا يعرف ولا يستطيع ان يعرف داخل اي بركان في طور يقظته الاولى… كان يسير. لكنه التاريخ والطليعيون بين الصحافيين يمدون ايديهم اليه دون ان يملكوا سوى احساسهم بأن شيئا ما مهما يغلي هنا. وعندما يتأكد احساسهم فهم غالبا أول المنسيين بل أكبر المنسيين.

جبل عامل اليوم هو عبارة عن لواء لبنان الجنوبي، ما عدا حاصبيا وقسم من قضاء جزين. وقد خرج منه بعض القرى فتبعت فلسطين في التحديد الجديد. وأكثر سكان جبل عامل من المسلمين الشيعيين وهم يرجعون في معالم دينهم إلى الإمام جعفر الصادق أحد أئمة أهل البيت النبوي الطاهر. ويبلغ الشيعيون في جبل عامل زهاء سبعين ألفاً وقد أخرج هذا الجبل عدداً كبيراً من العلماء والأدباء والنوابغ والشعراء وفَّاهم حقهم وأشاد بذِكرهم العرفانُ في مجلداته السابقة. وقد أبت السياسة على جبل عامل مع ما له من سابقة أن يستقل كما يقولون ولو استقلالاً وهمياً بل كان من حظه ولا ندري الأكبر أو الأصغر أن يدمج في سلك لبنان المكبَّرِ لا أن يكون له ماله وعليه ما عليه.

وجبال العلويين هي المنطقة العلوية التي ساعدتها الجدود وهي تمشي بأقوام وإن وقفوا أن تكون حكومة أو دولة من جملة دولات سورية المتجزئة

لو جُمّعِت لم تك أقطارنا       دويلة فكيف صارت دول

والعلويون بهذه المنطقة أكثرية ساحقة لأنهم يبلغون حسب الإحصاء 152 ألفاً ويجمعهم مع شيعة جبل عامل شدة ولائهم للإمام علي بن أبي طالب وأهل البيت الطاهر وإن اختلفوا عنهم في بعض المعتقدات والعادات والعبادات كما سنوضحه عند كلامنا عنهم.

وقد استغرقت رحلتنا هذه عدة مدن وقرى سنتكلم عنها ونذكر مجمل ما نعثر عليه من تاريخها، وقد كانت على هذه الخطة: صيداء، بيروت، عاليه، كيفون، سوق الغرب، عبيه، كفرمتى، صوفر، المريجات، قب الياس، الشام، زحلة، المعلَّقة، كرك نوح، بعلبك، حمص، حماة، سلمية، طرابلس، طرطوس، بيت عليان، أرواد، بانياس، بلغونس، جبلة، سلاطة، القرداحة، الرويمية، فدوي، اللاذقية، رأس الخشوفة، برج صافيتا. هذه 32 مدينة وقرية طفناها في مدة 35 يوماً.

رحلة سياحية

السياحة مدرسة سيارة تعلم الإنسان كثيراً مما يجهل، وتوقفه على أخلاق الأمم والشعوب، وتريه ما استحسن واستهجن من أطوارهم وعاداتهم. وتوجد له أصدقاء قد يصعب أن يجدهم عن بعد. وقد سُهّلت السيارات والقطارات على السائحين الصعب وقربت لهم البعيد. وتصنع إدارات السكك الحديدية حسناً بإعطائها للصحفي أوراقاً مجانية، متجولاً ناظراً في شؤون صحيفته وقد كان ذلك من مسهِّلات ومشوِّقات هذه السياحة وإن كان نصفها في السيارات.

خرجنا من صيداء الساعة الخامسة بعد الظهر، وذلك يوم الخميس وهو اليوم الرابع عشر من المحرم 1343هـ وآب 1924م. وأخذت تسير بنا السيارة في طريق بين حدائق صيداء وبساتينها الجميلة. وسقيُ صيداء هذا من أحسن مناظر سورية وأكثرها مورداً، وجل غرسه من الليمون المنوَّع يتلوه الأنكدونيا فالموز وقطعنا نهر الأولي الذي كان يفصل صيداء عن لبنان وهو الحد الشمالي لجبل عامل، واسمه في التوراة نهر الفراديس، وهو عند اليهود آخر حدود فلسطين ولم ندرِ ما تفعل به السياسة ذات الأشكال والألوان.

 

السابق
غمرة عالسريع ما بتنفع… مش حلوي السرعة بعيد الحب
التالي
وزير المال يدرس فكرة إلغاء الجمارك