الزبائنية: المشترك في الثقافة السياسية في لبنان

الزبائنية، او المحسوبية، آفة مستشرية في ممارسة الشأن العام: في السياسية والاقتصاد والادارة العامة، وحتى في المؤسسات الدينية والاجتماعية والتربوية. وهي جزء من ممارسة السلطة، خصوصا في دول العالم الثالث، ومنها لبنان.

الشائع في ادبيات الزبائنية في لبنان ربطها بالطائفية او بالنظام الاقتصادي. ففي حين ان الرابط موجود، الا انه لا يكفي لتفسير اسباب الزبائنية واساليب ممارستها، فهي مرتبطة ايضا بالثقافة السياسية السائدة وبنظام القيم المجتمعي الذي يتشارك في تكوينه اللبنانيون على مختلف انتماءاتهم الطائفية والسياسية والمناطقية وسواها. الطائفية، شأنها شأن العشائرية والقبلية في بعض الدول العربية والحزبية في الانظمة السلطوية، تعكس التداخل بين الانتماءات الاولية والسلطة السياسية وإرادة تعطيل المحاسبة والمساءلة. النظام الطائفي و «الاقطاعية» السياسية والمالية والادارية هي آليات تنفيذ للزبائنية ومصدر حمايتها. فالعلة تكمن في الانتهاك العلني والمتمادي للقانون وفي نظام القيم المجتمعي الذي يمجّد «الشطارة» على حساب القانون والاخلاق. «فالآدمية»، مثلا، مرادفة بنظر البعض، للفشل في جني الارباح المادية بأساليب ملتوية وفي ابتكار وسائل الفساد والافساد في الادارة العامة وخارجها، حتى ان الرشوة باتت تسمى في بعض الكتب المدرسية «اكرامية». في القطاع الخاص، الزبائنية موجودة لكن بحدود وضوابط. اما في القطاع العام فالزبائنية ليست فقط ممارسة طبيعية بنظر البعض، بل هي مطلوبة ومتوقعة لا من اصحاب السلطة والنفوذ فحسب، بل ايضا من المواطن العادي. والامثلة عديدة لا مجال لتفصيلها.
في لبنان، نماذج ثلاثة في ممارسة الزبائنية. اولا، تجربة مرحلة ما قبل الحرب، حيث كان للدولة مقام وللمسؤولين فيها احترام، لا سيما في الفترة الشهابية. لم يكن الموقع السياسي – النيابة، أو الوزارة أو الرئاسة – في مراحل سابقة، مصدرا لجني الثروات في القطاعين العام والخاص. العمل السياسي كان منفصلا الى حدّ مقبول عن المال وBig Business. معظم اهل الحل والربط في تلك المرحلة لم يكونوا اثرياء بالمعنى المتعارف عليه اليوم، ومن كان لديه ثروة مالية أو عقارية، فغالبا ما كانت تُبدّد في سبيل العمل السياسي. كما ان مرحلة ما قبل الحرب شهدت نشوء احزاب سياسية وعقائدية حاولت ان تقدم نموذجا جديدا في العمل السياسي المنظم، بديلا من التقليد. لكن في الممارسة، فشلت معظم الاحزاب في تقديم نموذج اكثر شفافية وأقل زبائنية من القوى السياسية التقليدية.
ثانيا، سنوات الحرب شهدت انهيار الدولة ومؤسساتها وتعطيل القضاء وسقوط القِيَم لِيَحُلّ مكان كل ذلك تسلّط قوى الامر الواقع التي مارست شتى انواع الفساد والزبائنية بقوة السلاح وتشاركت في تقاسم المغانم في ما بينها. بكلام آخر، مداميك الدولة، التي بُنيت منذ الاستقلال ولم تُستكمل في 1975، تهدّمت بالكامل طيلة خمسة عشر عاما من حروب الداخل والخارج، وهي ايضا نزاعات مسلحة ممولة من دول وتنظيمات مارست الزبائنية مع «زبائنها» من الاحزاب والميليشيات المحلية و «قبضايات» الأحياء في المدن والبلدات في المناطق اللبنانية كافة.
ثالثا، في مرحلة ما بعد الحرب، اصبحت الدولة الراعي الاول للزبائنية، وأُضيف اليها العامل المالي والاقتصادي. الواقع السياسي الذي نشأ بعد 1990 كان مبنيا على نظام زبائني متكامل في سلسلة هرمية من النفوذ المالي والسياسي والمقايضة والمحاصصة في السلطة التي تلازم مسارها في الاتجاهين بين بيروت ودمشق، لا سيما في الفساد المنظم لخدمة مصالح اصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي في كلا البلدين. ففي مشروع اعادة الإعمار زبائنية ومحاصصة غير مسبوقة، كذلك في مرسوم التجنيس العام 1994 وفي قوانين الانتخاب وادارة «المجالس» والصناديق، وفي عدد من القطاعات الحيوية، منها الاتصالات والطاقة والتربية والإعلام والنقابات وسواها. فلكل مشروع سياسي او اقتصادي كبير شبكة مصالح زبائنية منظمة وفاعلة.
مرحلة جديدة بدأت بعد الانتفاضة الشعبية في 2005 وانسحاب الجيش السوري، بعدما خَلَت الساحة للقوى السياسية المحلية واستمرت الزبائنية، لكن مع فارق غياب الطرف السوري. حاول «الكارتيل» السياسي الابقاء على الامر الواقع حفاظا على مصالحه عبر «التحالف الرباعي» وإبعاد التيار السياسي الاكثر شعبية في الوسط المسيحي بقيادة العماد ميشال عون بعد انتخابات 2005. استطاع تكتل «التغيير والإصلاح» ان يفتح «ملفات» الفساد والافساد ويسلّط الضوء عليها داخل الحكومة وخارجها، الا انه اصطدم بواقع نظام المحاصصة المجرّب والمتجذر في الادارة العامة، وبضعف ثقافة المحاسبة والمساءلة في ظل غياب سلطة الرقابة والقضاء الفاعل. اما عدم اعطاء الناس الاولوية للتصدي للزبائنية فمرده الى ان هموما اخرى ضاغطة تشغلهم، وبسبب عدم الثقة بأن الاجراء الذي يتخذ سيُتابع للوصول الى الغاية المنشودة.
اما الزعم بان اللامركزية الادارية ونظام الاقتراع النسبي او قانون انتخاب «عصريا»، على اهمية هذه التوجهات الاصلاحية، سيقضيان على الزبائنية او يحدّان من ضررها، فهذا تمنٍ في غير محله، لان المشكلة تكمن في الثقافة السياسية ومفهوم المواطن للمواطنة، وفي عدم الثقة بأن الاجراء الاداري او القانوني لن يكون موسميا، فتنتقل البلاد من «الانماء المتوازن» الى «الفساد المتوازن».
يبقى ان خريطة الطريق الواقعية والجدية في التصدي للزبائنية والفساد والمحاصصة تبدأ بإبعاد القضاء عن المحسوبيات والتبعية السياسية، فيشعر المواطن انه صاحب حق يحميه القانون وان المساواة تجاه القانون لا مساومة عليها. عندئذ تُبنى سلطةٌ قضائيةٌ مستقلةٌ (لا قضاة مستقلون فقط) عن السلطة، سياسية كانت ام اقتصادية ام دينية.

http://assafir.com/Article/18/394816

السابق
وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي: اجتماع جنيف المقبل حول ليبيا فرصة اخيرة
التالي
اقتحام معبد اشمون قرب صيدا