عندما يصدّ لبنان حروب الآخرين

“فلنحمل الى التراب الأبالسة الذين عذبونا خلال السنة التي تنتهي…”. شارل ديغول في 31 كانون الأول 1968

لم تكن الحروب التي شنت حولنا وعندنا هي حروباً في ساحات القتال فحسب، بل إنها حروب في ساحات القيم.
لأن لبنان الذي استبيح كساحة لسنوات، هو قبل كل شيء حاضن لقيم لعله خبأها خلف أبواب الزمان، تسيّجها مخزونات الصدور وموروثات الأجيال.
وليست الأخطار الحالية هي من “داعش” وشبيهاتها فقط، من العواصف القاتلة التي هبّت على الشرق العربي مدمِّرة ذاكرته الإنسانية قبل التراثية، ولا من أنظمة الحكم التي قتلتنا وعاملتنا كالأعداء، بل من مختلف الرياح التي تجيء، شرقا وغربا. لكن الجسر الذي يربط الشرق بالغرب، منذ أجيال والى أجيال، لعله يهتز بين وقت وآخر ولكن لا يقع ولن يقع.
نحن الجسر. نحن صلة الوصل بين القارات والأديان والثقافات. نتقن اللغات الأجنبية ونصون العربية في أديرة الرهبان ومطابعهم في مراحل التاريخ الصعبة. أسياد النهضة وكل نهضة أمس واليوم وغداً في كل عطاء إنساني وفكري وفني. نخاطب العالم برحابة ونبقى أوفياء للعروبة ومقتضياتها ومتطلباتها. فضل لبنان وسرّه أنه يستوعب التناقضات بقوة ذلك الرصيد المخبأ، لأنه في الأساس تمكّن من تحويل تناقضاته الى روافد تصب في هذا النهر الدافق بالسنى، الذي يروي ظمأ الكثيرين في العالم.
من تراكم الصور التي تنتصب أمامنا كالوقائع العنيدة، ما يقود اللبنانيين الى تجوال نظراتهم بين عوالم اليوم في تطورات الأمس واليوم. امرأة تعسة متهمة بالزنى يرجمها رجال داعش بحضور والدها ويجبرونه على المشاركة في قتلها، وأخرى تظهر وزيرة العدل الفرنسية كريستيان توبيرا تذرف الدموع فرحاً في مجلس النواب الفرنسي، إنتصاراً بإقرار زواج المثليين.
فيا له من عالم، من عالم يحضر الى بيوتنا عبر الشاشات، ويعبث في ضمائرنا، نحن الجالسين بين الكنائس والقباب. تمتد أمامنا سماء الشرق ساطعة بالضياء. أردناها رحابة فكر وعطاء وتبادلاً واختلاطاً، لا ظلاماً ولا فوضى في القيم جعلت البابا فرنسيس يصرخ أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبور في 25 تشرين الثاني الماضي: أين أنت يا أوروبا؟ أين مُثلك التي قادتك الى الكبر؟ أين جذوعك الصلبة؟ أين عطشك الى الحقيقة التي نقلتها الى العالم، الحقيقة التي تستدعي الضمير؟…
فإذا كان اللبنانيون يتحسسون هذه التناقضات أكثر من غيرهم فذلك لأن توازنهم الإنساني يتقدم توازنهم السياسي، ولأن سر وجود لبنان هو في سر مجتمعه. ومجتمعه يجب أن يبقى على الصورة التي بررت وجوده. بعيداً من أي عدوى تجيئه من هنا أو من هناك. إذ ليس من باب المصادفة أن بقي لبنان بمنأى عن الديكتاتورية التي سادت في المنطقة طوال عقود، وعن أي نظام حكم عقائدي من جهة ثانية. فطبيعة تكوينه تأنف أي نوع من الكبت، إنطلاقاً من تكوين بشري لا شبيه له شرقاً وغرباً.
فهل نحن حيارى إزاء هذا الكم الصارخ من تناقضات عالم اليوم؟ حتى لا نقول من صراع حضاراته.
كلا، لأن لبنان يبقى مجتمعاً حصيناً ولو حراً، وسط محيط لم يرحم في السابق ولعله لن يرحم في المستقبل إلا إذا صار يشبهه. وهذا ليس متوقعاً في مدى منظور. فلبنان تحميه حدود غير تلك المستباحة مع سوريا، والتي رفض افرقاء معروفون تسييجها بالقرار الدولي والوسائل الدولية للمراقبة حتى تبقى الخروقات مباحة ذهاباً وإياباً. حدود لبنان لعلها غير منظورة، رسمت في عمق النفوس قبل عمق التراب، في جذوع الشجر التي كان العثمانيون يعدونها شجرة شجرة وفي تراث دفاتر الفرنسيين الموصولة بمعهد الحقوق الروماني قبل الفرنسي، ومن سعة الفكر والعطاء والاختلاط والتجربة المميزة التي أدرك العرب معناها وفوائدها والتي جعلت مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز يقول: “لو لم يكن لبنان موجودا لوجب إيجاده”.
بالطبع لا يعرف قاطعو الرؤوس هذه الحقائق عن لبنان، فهم زوبعة في صحراء دان وجودها بقوة مؤتمر الأزهر الأخير الذي جمع ممثلي جميع الأديان والطوائف في الشرق، فوجدوا أنفسهم يقولون كلاماً يشبه لبنان. وهذا انتصار للبنان.
قد لا يكون لبنان دولة ناجحة بمقياس التصنيف للدول. لأن القوى السياسية فيه عجزت عن انتخاب رئيس للجمهورية، وعن احترام الدستور. والأمر ذاته انسحب على مجلس النواب الممدد له خلافاً للدستور. وعلى الحكومة التي تمارس بصعوبة صلاحيات رئيس الجمهورية، وعلى الفساد الذي ينخر المؤسسات كلها. هذا كله صحيح في بلد ارتهن قسراً للمحاور وربط بمرجعية خارجية جعلت فرنسا، فرنسا الصديقة تحاور إيران من أجل الإفراج عن رئاسة الجمهورية.
لكن القراءة السياسية الواقعية هذه، يقابلها قراءة من نوع آخر لا علاقة لها بالسياسة التي عطلت الكثير، ولم يكن في حركة من عطلها ماضياً وحاضراً ما يعتبر إنجازاً للبنان.
الإنجازات جاءت من غير السياسة والسياسيين، لتبرهن أن الأوطان لا يصنعها أولئك الذين يعطلون ويمدون أيديهم الى الخارج. فالتاريخ هو ملك الشعوب الشجاعة التي تدرك أن الخطر هو في الاستسلام. واللبنانيون برهنوا أنهم من صنف تلك الشعوب.
فمن قال إنه ليس هنالك سوى القوة العسكرية لمواجهة الأخطار. وإلا كيف صمد لبنان حتى الآن؟ لقد قالت طرابلس كلمتها النبيلة على صورة أهلها. وقال أهالي المناطق الأخرى في عكار والبقاع وصيدا وبيروت كلمتهم الواجبة. والحوار يسلك طريقه الى الأساس. دعوا البنود الخلافية العصية جانباً، ودعونا نتحاور في المساحة المشتركة. إذ لا بدّ لهذه المساحة من أن تتسع.
وهي تتسع اليوم في حوارات مسؤولة فرضها وعي الجميع لكيفية تأمين السلامة. لأن هذا الدافع هو خير بوصلة للإرشاد الى المصلحة. وبوصلة لبنان لا تخطئ.
ولكن هذه المرة، وربما خلافاً للتقليد الذي يقود الناس بصورة طبيعية الى توقع التغيير مع المحطة الجديدة في عمر الزمان، والعام المنصرم كان شديد القساوة، فلعل أفضل توقع للبنانيين هو تأكيد المراهنة على أنفسهم، إذا لم يكن لحل المشاكل السياسية، فعلى الأقل لاستمرار تلك الحيوية المتقدة في نفوسهم، والتي قاومت ماضياً وحاضراً مختلف أنواع التحديات، بانتظار أن تنقشع عن سماء الشرق العربي تلك الغيمة السوداء التي تغطيه. فهل هنالك من وسيلة أخرى لصد حروب الآخرين؟

السابق
أزمة داخل البيت الحكومي
التالي
الجرافات تعمل على فتح طرقات عكار المقطوعة بالثلوج