بحبك أنت وعايش، بحبك أنت وميّت

لماذا قبل أن يموت أحدهم، تكون السهام كلها متوجهة إلى صدره من فريق واسع من خصومه، حتى إذا ما مات وانقضى أجله، تبدل الحال وتغير المقال، فمن عدو إلى صديق وربما أخ، ومن غريب إلى قريب، ومن مقاطع إلى شعبي وجماهيري ومن عميل وصاحب محور معاكس، إلى صديق وزميل وحبيب قلب.

لا يخلو لبنان من الانقاسامات السياسية والدينية والطائفية والمناطقية، وفي علم الرياضايات تحوز هذه الانقسامات على تسميات بديلة، فهناك الانقسام العمودي والانقسام الأفقي، والانقسام الحاد والدائري وجميع الأشكال الهندسية، وكل حزبٍ منهم بما لديهم فرحون، وبما لدى غيرهم منزعجون ومقهورون وغاضبون!
وإنه لمن النادر أو من شبه المستحيل حتى لا نقول مستحيل.. أن تجد شخصاً أو مواطناً لديه أصول لبنانية ولا ينتمي لطرف أو جهة أو فريق، ولغاية الآن لا زال الوضع على طبيعته وسجيته، ولكن وآآآه مما يأتي بعد “ولكن”!
عندما تنتهي الأعوام المكتوبة لمسؤول من المسائيل أو لشخص من الأشخاص ترى جنوناً ما بعده من جنون، هو جنون ممزوج بصخب وضجيج ومسارعة إلى حجز الأماكن حول الفقيد، فهذا أكل مع الفقيد قبل يومٍ من رحيله طبخة ورق عنب، والآخر كان لا ينام قبل أن يسمعه الفقيد كلمات التحايا المسائية، وغيره الذي لم يكن يستطيع أن يقدم على أي خطوة قبل أن يحوز رضا الفقيد ومباركته، وغيرهم وغيرهم ممن تظهر فجأة مواهب الروابط الاجتماعية والعلاقات المتينة، الخ. ولكن لحظة من فضلكم!
لو عدنا بالتاريخ فقط 24 ساعة من رحيل الفقيد، فهل يمكن أن نرى ما هي عليه الصورة فعلياً؟ لو راجعنا الأيام القليلة التي تسبق انتقال شخصٍ ما من هذه الدنيا إلى دار الآخرة، سواء بطريقة سلمية أو بطريقة جرمية، فهل سنرى ما نراه عادة من لطم ونعي ورثاء؟
لماذا قبل أن يموت أحدهم، تكون السهام كلها متوجهة إلى صدره من فريق واسع من خصومه، حتى إذا ما مات وانقضى أجله، تبدل الحال وتغير المقال، فمن عدو إلى صديق وربما أخ، ومن غريب إلى قريب، ومن مقاطع إلى شعبي وجماهيري ومن عميل وصاحب محور معاكس، إلى صديق وزميل وحبيب قلب.
لعن الله السياسة في لبنان فهي من الوساخة بأن تحتار في إحصاء وعد أصدقاء وأحباب وأنسباء ومريدي الفقيد ولو قدّر الله له أن يعود إلى هذه الحياة لبصق في تلك الوجوه المنافقة، وتلك الألسن المداهنة، ولقطع تلك الأيادي المتزلفة عقاباً وتعزيراً لأصحابها من تهمة التلون بعشرات الألوان.
لا أدري هل أُظهر إعجابي أم أخفيه بتلك المهارات في التبدل والتحول، لا أعرف جيداً هل أمدح أم أذم تلك الأقلام السريعة التحول، أنا في حيرة من أمري، وفي دهشةٍ من حالي، لالالا، بل أنا في حيرةٍ من أمر المنافقين، وفي دهشة من واقعهم!
كيف ينامون؟ كيف تغمض لهم عيون؟ بماذا يفكرون عندما يضعون رأسهم على الوسادة قبل النوم؟ أليس فيهم من يخجل من نفسه؟ هل نجد بينهم من يخجل مما اقترفه لسانه وكسبته يداه؟ ألا يقف أيٍ منهم أمام مرآة الحقيقة فينظر إلى عيناه من عيناه ليرى فيها بريقاً زائفاً خدع به بعض السذج ممن يصدقون كل ما يسمعون؟
أعلم أن للموت حرمة، وللوفاة وضع استثنائي بشكل عام، لذلك أنا لا أنتظر من أحد أن يشتم في ميت، أو أن يكيل له السباب، ولكن على أقل تقدير ألا يغير الموت ما تعتقده أنت في رأسك، كف لسانك عن أرواح من ماتوا، ولكن قبل ذلك، كفها عن تلونك ونفاقك ومحاولاتك اليائسة البائسة لأن تظهر للجميع أن الفقيد يعادل عندك رقماً مميزاً.. فمن كان يساوي لك صفراً في حياته، لن يساوي لك شيئاً بعد مماته.

 

السابق
قتال «داعش» خدعة لتعزيز موقف أميركا
التالي
البحرية الايطالية انقذت سفينة شحن على متنها 450 مهاجراً