أزمة الدين المستنير

محمد علي مقلد

 

“ملتقى الأديان والثقافات” ليس الظاهرة المستنيرة الوحيدة من المشاريع الدينية. قبله ظهر مصلحون وطرحوا برامجهم ووجدوا من ينبذهم ويرميهم بالكفر أو يهمش أفكارهم ويطفئ جذوتها، من مشروع الأفغاني ومحمد عبده إلى اجتهادات محمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين ومساعي هاني فحص المتألقة للجمع للوصل بين الأديان، وصولا إلى كثيرين سواهم من الأحياء. فأين يكمن العطل ولماذا تصل مساعي الاصلاح إلى طريق مسدود.

الدين جزء أساسي من تكويننا الثقافي والاجتماعي والاخلاقي ولكل منا الحق وعليه واجب تعزيز هذا الانتماء وتعميقه بالمزيد من المعرفة، وبالمزيد من التفاعل بين الأفكار، حتى لا يختزل الدين بطقوس يصنعها البشر ويراكمونها عبر الأجيال، أو تختزل السياسة بسلوك حاكم أو بسيرة سلف صالح. غير أن من الضروري التمييز بين ثلاثة مستويات في موقع الوعي الديني من البنية الثقافية. هل هو الإيمان أم ممارسة الطقوس أم الاكتفاء باحترام القيم الدينية؟

“الدين بريء من الصراعات المشبوهة والصدامات المفتعلة”، على ما يقول مشروع بيان سيصدر عن الملتقى. هذا صحيح. لكن مرتكبيها متدينون أو يزعمون أنهم يفعلون ذلك باسم الدين واستنادا إلى نصوصه. ولا سبيل إلى إنكار ذلك ،إو إلى تنصل النص الديني من المسؤولية. إذن تحتاج المسألة إلى حل فقهي ينطلق من اعتبار النص الوحيد المقدس هو النص الإلهي، أما النصوص البشرية، بما فيها تلك الصادرة عن النبي فهي غير مقدسة (وما محمد إلا بشر) ويحصر بالمرجعيات الدينية وحدها أمر تأويل النصوص والاجتهاد فيها، و يحريم بالتالي إصدار الفتاوى على غير مستحقيها من ذوي المقامات الثقافية والفكرية الدينية، وبمشاركة العلمانيين حين يتعلق  الأمر بالشأن العام، على غرار ما حصل مع بيان الأزهر.

إذا كان تدخل رجال الدين في الشأن الوطني حاجة وضرورة من أجل تعزيز الوحدة الوطنية وإعادة بناء الوطن والدولة على أساس المواطنية والعدالة والحرية، فإن تدخلهم في الشؤون السياسية يعود بالضرر على الدين وعلى السياسة في آن واحد. على الدين لحشره في وحول المصالح اليومية والدنيوية، وعلى السياسة لإضفاء المرجع الديني على الكلام السياسي مسحة من القداسة لا يستحقها أي كلام بشري سياسيا كان أو حتى دينيا، وهذه القداسة التي في غير محلها هي التي تنفخ في عقول الجهلة وتدفعهم إلى القتل وراء كل خطبة جمعة أو بيان حزبي موقع من مكتبه السياسي أو فتوى أمير، على غرار ما تفعله رموز كل التيارات الأصولية الدينية والقومية واليسارية.

ليس يضير الملتقى ،بل يرفع من قيمته،  أن يكون مؤسسوه رجال دين. لكنه ملتقى سياسي وليس دينيا  وهو يجمع في صفوفه، بلغة السينودسات، رجال دين وعلمانيين. انطلاقا من صفته السياسية هذه ينبغي تغليب الكلام السياسي على أي كلام ثقافي أو ديني آخر.

إن الدعوة مثلا إلى “كسر حاجز الصمت وإلى رفع الصوت عاليا” هي واجب سياسي( وليس واجبا دينيا وإنسانيا)  لأنها صرخة موجهة ضد سلطة مستبدة وفاسدة وليست دعاء أو طقسا دينيا نتوجه به إلى الله . إن سلطة الاستبداد قد تستظل بتغييب السياسة ، وترى في ذلك صك براءة لها أو مبررا لاستضعاف المجتمع المدني لكون أعضائه متفرقين عن حقهم، بل هي تنفذ من خلال هذه الثغرة لتجعل نفسها شريكا في الشكوى ورفع الصوت، ولنا في تجربة الحاكمين في لبنان أكثر من دليل .

بهذا المعنى يبدو إعفاء الأنظمة السياسية من مسؤولية تعزيز منطق التطرف الديني، واتهام سياسات الدول الكبرى المنحازة للعدو الصهيوني بتوليد العنف وتمويله ورعايته،  هو تبرئة للأنظمة من فعل ذلك. فالطائفية عنف والمحاصصة عنف والفساد عنف ، والنظام الذي تتأصل هذه المفاسد  في سلوك حكامه إنما يربي مواطنيه ويطوعهم ويدربهم ويخلق لهم الظروف المشجعة على ممارسة العنف.

التأكيد على الفارق الجذري بين الارهاب والمقاومة هو مسألة مبدئية ، لكن حشره في كل البيانات بمناسبة وبغير مناسبة يحول المقاومة إلى مادة انقسام يضعف منسوب الاعتدال في أي بيان، ويجعله نصا حدثيا منحازا في الصراع اليومي لفريق ضد فريق، في حين يحتاج الأمر إلى خطاب لا يدافع عن سيادة قوة ضد أخرى ومقاومة في مواجهة مقاومة، لأن السيادة الوطنية ليست ليست شيئا آخر غير سيادة الدولة على الحدود، كل الحدود البرية والبحرية، وسيادته داخل الحدود بقوة القانون،بما يلغي أي احتمال لوجود دويلات الاستبداد الموروثة أو المستحدثة، أو أية فرصة  لانتهاك الدستور والقوانين، أو لاستقواء المجتمع الأهلي على المجتمع المدني.

أما تكرار الكلام عن “الالتزام بميثاق الصيغة اللبنانية في العيش الوطني الواحد” ، فهو يذهب في عكس المرتجى لأنه يشير إلى المعنى الضمني الكامن في الانقسام اللبناني. الشعب اللبناني هو المصطلح الوحيد الذي ينبغي استخدامه مع كل مشتقاته ومندرجاته، على أن يحذف من القاموس السياسي،وليس الديني او الاجتماعي أو الثقافي، كل مصطلح يتناول الوضع اللبناني من منطق الانقسام الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، لأن الوطن في حاجة إلى وحدة وطنية حقيقة وإلى شعب لبناني لا إلى شعوب وقبائل

السابق
لبنان يتلمّس خيوط الأمل في «عجقة العيد»
التالي
أبو سياف: استبدال الطيار الأردني «بأسيرين لداعش» أفضل من قتله