من مارتن هايدغر إلى سعيد عقل: صَغارُ السياسةِ كِبَرُ الشِّعر

سعيد عقل

من الثابت أن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر كان عضوا في الحزب النازي بين 1933 و 1944 ومع ذلك احترم الحلفاء قيمته الفكرية العالية واستمر في النشاط الثقافي في الخمسينات حتى وفاته عام 1976. ويُعتبَر فيلسوفُ الخوف الوجودي من “العدم” اليوم أحدَ الفلاسفةِ الأكثر تأثيراً في القرن العشرين.

نقترح على السلطة الوطنية الفلسطينيّة، قبل غيرها، أن تكرّم الشاعر الراحل سعيد عقل في معقلها في رام الله. إنه تكريمٌ يليق بفلسطين.

فتكريم سعيد عقل مطلوبٌ فلسطينيّاً لا لأنه فقط كتب عن القدس قبل أن يصيبه مسّ التطرف الكلامي ضد الوجود الفلسطيني في لبنان، بل لأن فلسطين، نخبةً وجمهوراً ولاسيما النخبة، معنيّةٌ بأحد أكبر الشعراء والناثرين العرب في المائة عام الأخيرة ومن قلّةٍ من كبرائهم الذين غيّروا في حساسيات اللغة العربية الموروثة وأناقاتها وأحد الشعراء العديدين الذين سيذْكُرُهم سجل الشعر العربي منذ الجاهلية إلى اليوم.

فلسطين هي الممثِّلة والمجسِّدة الأعمق للمظلوميّة العربية وإحدى أهم المظلوميّات العالمية في ثلاثة أرباع القرن الفائت والمظلوميّة الأولى الباقية بعد انتهاء نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. ولهذا ستكون فلسطين كبيرةً بحجم ما هي عليه في الثقافة العربية حين تحضن قامات الثقافة العربية وبينها سعيد عقل وهي التي أنتجت قامة محمود درويش العربية العالمية. وستكون فلسطين بحجم رمزية القدس حين تبعث عبر مسيحيّي لبنان برسالة التكريم هذه وستقول للعنصرية الإسرائيلية أنها، أي فلسطين، أكبر من انفعال عابر هنا أو هناك وهي التي، عبر سفارة فلسطين في بيروت، امتلكتْ شجاعة الاعتذار من الشعب اللبناني عن سنوات الحرب واضعةً وراءها اختلافات الحرب العابرة مع الكثيرين داخل لبنان رغم كل مراراتها ومراراتهم.

بعض تطرّفه كان لا يُحتمل مثل موقفه في فترة الاجتياح الإسرائيلي. ربما لأن تدمير لبنان جعل “جنونه” غاضبا لا هادئا. وقد أصبحنا جميعاً “مجانين” بصورة أو بأخرى في تلك الحقبة وإنّما بطرق ومعايير مختلفة ومتناقضة. لكنّ بعض ألدّ أخصام “الانعزالية” اللبنانيّة من العروبيّين اللبنانيّين عادوا بعد الحرب وتعاملوا معه باحترام شديد يستحقُّه عبر فتح صفحات صحفهم ومنابر نواديهم وصالونات منازلهم له مما عنى تخطّيهم الواعي للخلافات السياسية معه. كان ذلك يعني إعلاناً بصَغار السياسة أمام كِبَرِ الشِّعر. وهذه تُسجّل لهم ولثقافة الانفتاح اللبناني.

في هذ الزمن الصعب جدا الذي يهدّد بتدمير غير مسبوق للبنية الدينية التعددية في المنطقة سيكون تكريم سعيد عقل فلسطينيا وعربيّاً أقوى من أي وقتٍ آخر وسيعني سعة أفق ونضجا جديرا بالاهتمام تظهره نخبة عربية أساسية وستمتد أصداؤه إلى الشواطئ المغربية على الأطلسي.

لو يعرف مسؤولو وزارة الثقافة الفلسطينيّة، وقد يعرفون، أي تقدير وبهجة كان يلاقي فيها الشباب المتعلِّم من كل مناطق لبنان وسوريا والأردن سعيد عقل في الجلسات الخاصة والندوات العامة حين كان قادرا على التحرّك أو الحضور على التلفزيون.

بتكريم سعيد عقل ستجدّد نخبة الداخل والخارج الفلسطينيَّيْن محبتها للبنان أيّاً تكن التقييمات السياسية للشخص المعني.

سبق أن واجه مبدعون عربٌ نقدا شديدا على مواقف سياسية اتخذوها. نجيب محفوظ أوّلُهم بتأييده زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس. محمد عبد الوهاب في إعادة توزيع “نشيد يا بلادي” وعزفه أمام السادات وقد بلغ التوتّر حدّ القتل مع يوسف السباعي. ماتت السياسة وبقي تقدير الإبداع. أدونيس اليوم يتعرّض لضغط سياسي شديد في موضوع الأزمة السورية وجدل النظام- المعارضة. خارج النطاق العربي من الثابت أن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر كان عضوا في الحزب النازي بين 1933 و 1944 ومع ذلك احترم الحلفاء قيمته الفكرية العالية واستمر في النشاط الثقافي في الخمسينات حتى وفاته عام 1976 ويُعتبَر اليوم فيلسوف الخوف الوجودي من “العدم” أحد الفلاسفة الأكثر تأثيراً في القرن العشرين.

كان سعيد عقل ركناً في الثقافة العربية ولو أنه كان يعطي الانطباع أنه “رغماً عنه” هو أحد أعمدتها المعاصرين! ولا شك أن ذكاءه يجعله فخورا جداً ضمنا بهذا الموقع الثقافي العربي. شاهدته مرة في جلسة كيف طرب وأخذ يحرك يده اليمنى مغمضا عينيه وهو يستمع إلى قصيدة لشاعر قديم. لم أصدّق ادعاءاته ضد اللغة العربية يوما حتى حين كتب اللهجة العامّية اللبنانية باللغة اللاتينية وهو عمل مهم وطريف وجدي يجب أن يُدرّس في مدارسنا باعتباره أحد مظاهر تفاعلات متطرّفة في المنطقة مع الحداثة وبات جزءاً من تاريخ التباساتنا الثقافية مع التذكير أن الموجة هذه افتتحها مصطفى كمال أتاتورك في المنطقة. تدريسه طبعاً إلى جانب قصائده بالفصحى.

فكيف يمكن للغوي عربي ومبدع شعري يلعب باللغة العربية مثله أن يكره العربية؟!
مستحيل. فضحَتْهُ قصيدته ” غنّيتُ مكّة…” و”يفضحه” كل تراثه.

السابق
جعجع: هتلر رئيس قوي.. وعرض عون مقبول معدلاً
التالي
دورة تدريبية في النبطية حول تقنيات حل المشاكل وصنع القرار