القدس.. تاريخ لا يُسرَق

قديمةٌ قِدمَ التاريخ، يؤكد المؤرخون أن زمن بناءها غير معروف ولا يستطيع أي مؤرخ تحديده. وبداية وجودها مرتبطة بالمسجد الأقصى المبارك الذي بُنِي بعد المسجد الحرام بأربعين عاما.

إنّها مدينة القدس، التاريخ فيها حكاية متصلة امتدت على مدار خمسة آلاف عام منذ سكنها اليبوسيون، ثم توالى عليها أهلُها من بطون كنعان ذوي النسب العربي. على مدار هذه السنوات، تعرّضت لأكتر من 25 غزوة تجاوزتها كلها وبقيت معلم تاريخ وحضارة إنسان.

هي مدينة ليست ككل المدن. التاريخ فيها يتجلى أكثر مما يتجلى في أي مكان آخر. تعتبر القدس ظاهرةً حضارية قد تتفرد فيها دون سواها من مدن العالم، فهي المدينة المقدسة التي يقدّسها أتباع الأديان السماوية الثلاث المسلمون والنصارى واليهود. تعاقبت الحضارات الإنسانية في هذه المدينة المقدسة عبر التاريخ، وحرص الجميع على أن يترك بصمته في القدس. توجد في القدس مئات الآثار والمعالم القديمة لكثير من الحضارات السابقة، لكن الآثار العثمانية لا تزال هي الأكثر والأبرز. أينما تنظر تجد رمزا عثمانيا هناك، وتحمل هذه الآثار سمات فنية تتسم بالفخامة والضخامة تعلوها كتابات تؤكد وتُخلّد من أمر بالبناء من أعظم السلاطين العثمانيين الذين رعوا القدس واهتموا فيها. الآثار هناك تؤكد أن القدس عربية إسلامية حتى النخاع وعثمانية حتى العظم، فقد عاشت المدينة المقدسة في ظل العثمانيين أوج تقدمها الحضاري حيث يرى الزائر لها في كل شبر وفي كل زاوية جمالا وطُهرا. مآذنها وقبابها ومحاربها ومصاطبها تعانق ذكرى الأوفياء من الراحلين. حرص العثمانيون على حماية القدس من أي أطماع فيها وخاصة الأطماع اليهودية.

يقول هيرتزل: “في أثناء محاولتي لبناء وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين، بعث إليّ السلطان هذا الجواب: “بلّغوا الدكتور هيرتزل ألاّ يبذل بعد اليوم أي جهد في هذا الأمر، فإنّني لست مستعداً لأن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير. فالبلاد ليست ملكي، بل هي ملك لشعبي، وشعبي روّى تربتها بدمائه، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب”.

رحلت الدولة العثمانية تاركة خلفها بقايا من قلب الإمبراطورية المبعثر وتاركةً أمانة  لمن بعدها اسمها القدس. ولكن الأمانة لم تصان، فقد استعمرها غرباء تنكرهم الأرض  بكل ما فيها. تآمُر استعماري صهيوني مشترك بدأت تُنسَج خيوطه في مطلع القرن التاسع عشر. تتّضح معالمه في مؤتمر بال في سويسرا عام 1897 ووعد بلفور عام 1917 المرتبط عضويا بالاستعمار البريطاني. لقد جاء احتلال القدس على مرحلتين عام 1948 وعام 1967 تتويجا لسلسة متلاحقة في البروتكولات التي تستهدف  في النهاية تهويد القدس. ففي عام 1948 طُرِد أهلُها الحقيقيون وسكنها المستجلبون، وبعد أن احتُلَّت عام 1967 بدأت معاول الاحتلال بهدم حي المغاربة الذي أوقفه صلاح الدين الأيوبي. ليتم الاستيلاء على العديد من الأوقاف والعقارات الإسلامية التي كان من أهمها حائط البراق الشريف، المكان الذي ربط فيه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم البراق الشريف في رحله الإسراء والمعراج، استولوا عليه وحولوه لمعبد لهم سموه حائط المبكى بحجّة العبادة. ترى لماذا يبكون عند هذا الحائط هل ثمة لمحة ندم على كل ما صنعوه ويصنعونه. في الحادي والعشرين من آب/ أغسطس عام 1969 قام أحد المتطرفين اليهود بحرق المسجد الأقصى المبارك وتمّت تبرأته على أنه مجنون. وتستمر الاعتداءات ويتناسل المجانين ترعاهم حكومة الاحتلال بثوبها الرسمي. ففي الثامن والعشرين من كانون الثاني/ يناير لعام 1976 أصدرت المحكمة الإسرائيلية قرارا بإباحة الصلاة لليهود في الحرم القدسي الشريف. تزوير واضح واستلاب ماكر للأرض والإنسان، ففي ما يُسمّى بقلعة داوود متحف تاريخ أورشليم لا وجود لكل الرموز العربية والإسلامية، في داخل هذا المتحف ليس ثمة إلا  نفق واحد للتاريخ، منقوش في نهايته رمز للهيكل المزعوم.

ما يُتوّج هذه المأساة استمرار الحفريات في حرم المسجد الاقصى المبارك. عن أي هيكل  يبحثون وعن أي تاريخ؟ ما هو التاريخ الذي يجيز طمس حقائقه التي لا لبس فيها ولا غموض؟ يقول المؤرخ البرفسور ويلز في كتابه (موجز التاريخ): “كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، ومنذ البدء حتى النهاية، لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينقيا، ذلك التاريخ هو أكبر وأعظم من تاريخهم.

في الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر من عام 1996، وبمباركة حكومية قامت السلطات الإسرائيلية  بفتح باب من جهة المدرسة العمرية للنفق الذي يمتد مسافة 488 م تحت الحي العربي الإسلامي في البلدة القديمة، وعلى طول أساسات حائط المسجد الأقصى المبارك وصولا إلى حائط البراق. يعتبر هذا واحداً من مجموعة من الأنفاق تحت البلدة القديمة، وتستخدم كمعابد لليهود.

بالقرب من مسجد عمر ابن الخطاب، أقاموا كنيسا يهوديا ملاصقا لأسواره، ومُنِع الأذان منه وحلّت مكانه محض وسوسات وهمهمات من صنع الشيطان. وفيما تُمارَس في حارات القدس القديمة شيء ممّا يسمّونه بالمعايشة، وجزء من ملف ضخم حافل بالقتل والتشريد والسرقة اسمه الاستيطان. محاولات دائمة يواصلون فيها حرب الاقتلاع وما لم ينتزعوه بقوة السلاح يحاولون أخذه ببريق الذهب.

تجثم فوق تراب القدس 30 مستوطنة تقع ضمن حدود المدينة وحولها، تُضاف إلى بقية المستوطنات التي تغطي كامل  مساحة القدس المحتلة عام 1948 بهدف تغيير طابع المدينة التاريخي الديني، وبالتالي تطويقها من جميع الجهات فيما يُسمّى بمشروع القدس الكبرى الذي يبتلع عشرين بالمئة من مساحة الضفة الغربية، ويتيح لليهود إقامة خمسة عشر مستوطنة جديدة حول القدس. لقد أدت عمليات التهجير المستمرة إلى خفض نسبة السكان من العرب في القدس ليصبحوا أقلية 1 إلى 3 مقابل اليهود. وانخفضت نسبة المليكة العربية من 90 بالمئة عام 1917 إلى 4 بالمئة عام 1994 وتستمر معاناة المدينة.

وفق هذه الممارسات المستمرة وغير المنقطعة، ماذا بقي من فرصة للحديث عن السلام وعن مستقبل القدس ومساجدها وكنائسها؟ ففي وقت يزدحم فيه الأفق بأحاديث السلام، يحدّق الموت بكل القدس ولا أحد فينا يعرف ذلك الموعد. فالقدس حتى الآن لم تشهد عملاً عربياً وإسلامياً نافذاً يحافظ على هويتها ويحميها من كيد أعدائها، وكل ما اكتسبته من أمتها بيانات شجب واستنكار، فكل مؤتمراتنا صغيرها وكبيرها تندد دائماً بالإجراءات والممارسات “الإسرائيلية” غير الشرعية التي تقوم بها سلطات الاحتلال في مدينة القدس، والهادفة لتهويد قبلة المسلمين الأولى، وطمس معالمها العربية والإسلامية. إنه مجرد كلام أجوف لا قيمة له على واقع القدس.

منذ أن ضاعت الذاكرة من الأمّة ضاعت القدس، ومنذ ذلك الوقت والقدس تنتظر فاتحا كالذين مضوا، فقد كان الغزو الصهيوني من أسوأ الغزوات للمدينة المقدسة، ومنذ ذلك الحين والجميع يتعاطف مع المدينة المقدسة ولكن التعاطف وحده لا يكفي.

فإذا كانت ذاكرة الأمة قد ظلت داعية بمكانة القدس في هذا الصراع التاريخي متعدد المراحل والحلقات، فإنّ مهمة ثقافتنا المعاصرة هي الإبقاء على ذاكرة الأمة وعلى وعيها الكامل بمكانة القدس حتى يطلع الفجر الجديد.

فكل نبضة في القدس وكل همسة وكل ذرة تراب تؤكد أن التاريخ لا يُسرَق، وأنّ الحقيقة لا تُزَوّر وأنّها سوف تبقى عربيةً إسلامية وعاصمةً لفلسطين.

 

السابق
كيري يرى علاقة «تكافلية» بين الأسد و«داعش»
التالي
بعد اللحوم …بدأت معركة «البوتوكس»