مأزق بوتين الاستراتيجي

“العالم على حافة حرب باردة جديدة، البعض يقول انها بدات بالفعل.” كلمات قالها الرئيس السوفياتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، مهندس البيرسترويكا واللاعب الاساسي في انهاء الحرب الباردة في القرن الماضي، الى جانب الرئيس الاميركي آنذاك رونالد ريغن. بعد ذلك التصريح بايام معدودة، اتسم ب“البرودة“ والجفاء لقاء الرئيسين الحاليين الاميركي باراك أوباما، والروسي فلاديمير بوتين، على هامش اجتماع أوبيك، ثلاث مرات مقتضبة. وقد ذكر صحفيون حضروا الاجتماع، أن بوتين ربت مرة على كتف أوباما، الا ان الاخير لم يلتفت إليه تقريبا.

وفي غرف السياسة الغربية، انتقادات لسياسة أوباما الخارجية التي أعطت أولوية لشن حرب على الارهاب، ولم تلتفت كفاية الى “الخطر الروسي الأعظم“. ففي الوقت الذي يرسل فيه الغرب تعزيزات عسكرية الى الشرق الاوسط، تقوم روسيا بتعزيز وضعها العسكري في أوكرانيا، وتتوغل شرقا بهدف دعم الانفصاليين هناك وتأمين دولة قابلة للحياة لهم، بعدما ضمت القرم. هذا ويصل النقاش الدائر حاليا، الى التخوف من احتمال استخدام روسيا اسلحتها التكتيكية النووية. ومن سعيها الى تحريك النزعة الانفصالية في العديد من دول البلطيق، ما يمكن ان يحقق للكرملين “انجازا يتمثل بترسيخ صورة الناتو كنمر من ورق“. كما نقرأ في الفايننشال تايمز.

لعل ما يعزز تلك المخاوف الأوروبية، قيام روسيا بانفاق حوالي ٣٠٠ مليون يورو سنويا، على حملات بروبغندا موجهة لناطقي اللغة الروسية في دول البلطيق. بالاضافة الى التصعيد العسكري الذي شهدته الاشهر الاخيرة، والذي وصف بالاستفزازي ما بين روسيا والغرب، حتى ولو لم يصل درجة المواجهة. اذ شهدت المنطقة أكثر من أربعين حادثة اختراق جواً وبحراً، منذ وضعت روسيا يدها على القرم. في حين كان أوباما يقول: “إن حلف الناتو، ومن ضمنه القوات الاميركية المسلحة، سيقف الى جانب استونيا..لاتفيا..وليتوانيا، خسرتم استقلالكم مرة، مع الناتو لن تخسروه مرة ثانية.“

الى أي حد يمكن أن يصل أوباما في وقوفه الى جانب تلك الدول؟ الأرجح أن يكتفي بفرض العقوبات الاقتصادية، وهي السلاح الأمضى الذي استخدمه في مواجهاته الدولية. فهل يؤتي أُكله في روسيا؟

بالرغم من امتعاض كثير من النواب الجمهوريين المنادين برد أميركي قاس على ما يصفونه بالعدائية الروسية في أوكرانيا، احجمت الادارة الاميركية عن أي تدخل عسكري في الازمة، واكتفت بفرض عقوبات اقتصادية تأمل بان تكون كافية لمنع المزيد من التصعيد الروسي. الا ان هذه المقاربة قد تؤدي الى نتائج عكسية، إذا ما دخلت روسيا في أزمة اقتصادية ( بسبب العقوبات وهبوط سعر النفط)، قد تجعلها “أكثر تهورا“ كما يرى البعض. ولنفهم ذلك، من المفيد أن نعود الى الظروف التي أدت الى نهاية الحرب الباردة الاميركية-الروسية قبل عقود.

لم تكن تلك الحرب التاريخية لتنتهي، لولا ضغوط في الشارع السوفياتي سابقا،( الاوروبي الشرقي لاحقا). ولولا القرارات والمبادرات التي اتخذها غورباتشيف، ووزير خارجيته شيفرنادزه. لقد انطلق القادة الروس في حينه، من نظرية قالت ان المنافسة بين الاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي، يجب الا تكون العامل المحدد للعلاقات الدولية. ولكن الهدف الاساسي كان داخلي، يتمثل بالخروج من أزمة اقتصادية. وبالتالي، كانت الدوافع الاقتصادية الاجتماعية، أساس التغيير الذي حصل على المستويين الشعبي والسياسي، وتلقفه الغرب طبعا.

اليوم وبعد مرور السنون، تتعرض روسيا لاحتمال حصول انتكاسة اقتصادية. والغرب الذي راهن عليه غورباتشيف للمساعدة في تحسن الاقتصاد، هو سبب تراجعه. العقوبات التي فُرضت على شخصيات مقربة من بوتين، ورأى فيها بعض الاميركيين ليناً، تعتبر في روسيا انتهاكا للسيادة، واستفزازا للشعور القومي. شعور قد يكون غائبا عن حسابات الادارة الاميركية المراهنة على توقف السياسة الروسية على شخص بوتين. مراهنة قد لا تكون في محلها، اذا ما اخذنا بالحسبان، انه رغم وجود معارضة حقيقية داخلية لبوتين، لا يختلف اثنان في موسكو على التشبث بحلم العودة الى دور روسي أكثر فعالية، يرون انه مستحق على الساحة الدولية.

بناء على ما تقدم، هل كان غورباتشوف على حق، حين تحدث مؤخرا عن انهيار الثقة بين أميركا وروسيا، وعن حرب باردة جديدة؟

هناك وجهة نظر تقول إن الوضع الآن أكثر خطورة مما كان عليه ايام الحرب الباردة، تقابلها أخرى ترى في الأمر مبالغة في غير محلها. وفي الواقع، إن الوضع الآن مختلف عما كان عليه في السابق. هناك تعاون في عدة مجالات على الساحة الدولية مثل افغانستان وايران، ونزاع في أماكن أخرى مثل أوكرانيا وسوريا. وهذه حالة خاصة بذاتها، لم يشهد لها تاريخ العلاقات بين البلدين مثيلا. ولكن، قد يكون ما يدفع البعض الى استذكار أيام الحرب الباردة، رفع منسوب التحدي في المواقف الروسية على الصعيد الدولي. فعلى الرغم من انعدام التوازن العسكري لصالح الولايات المتحدة، الا أن الدب الروسي كشّر عن انيابه متمرداً، في الفترة الأخيرة.

التمرد تجلى أكثر ما تجلى في محاولات التمدد خارج الحدود التي رُسمت لروسيا بعيد انتهاء الحرب الباردة. فبوتين الذي عزز النزعة القومية الروسية، أيقظ أحلام إمكانية العودة بروسيا الى تصنيف “الدولة العظمى“. ويرى مراقبون أن الرئيس الروسي يعمل على تشكيل “اتحاد روسي“جديد، عبر استخدام ورقة القومية الروسية في دول البلطيق، وتعزيز النزعات الانفصالية لديها، لضمها لاحقا الى “الاتحاد الحلم“ المذكور.  وهذا ما يمكن أن يفتح أمامه طريق الحصول على مقعد أمامي في قمرة قيادة عالم متعدد الأقطاب. خاصة بعد “الوهن“ الحاصل في الامبراطورية الاميركية.

انها ليست حربا باردة اذا، بل “حرب تمرد“ أعلنها بوتين. لكن الغرب لم يقف مكتوف الايدي أمامها، بدءا من أوكرانيا وصولا الى العقوبات الاقتصادية، واستخدام سلاح تخفيض سعر النفط ( وقد أثبت نجاعته في مواجهة الاتحاد السوفياتي). الأمر الذي اضعف رهان بوتين على الدخول قويا، من بوابة أوروبا، الى النظام العالمي الجديد. وفي ظل كل ذلك، أتت زيارة أوباما الاخيرة الى الصين، وقد فتحت آفاقا من التعاون الاميركي الصيني غير المسبوق، لتغلق أمام بوتين بوابة أخرى كان يراهن عليها، وهي التحالف مع الصين في مواجهة أميركا.

أين يضع هذا “الدب الروسي المتمرد“؟ يضعه أمام خيارين. إما التراجع والدخول في سبات جديد، وهذا سيكون صعبا جدا تسويقه داخليا، بعد وصول القومية الروسية الى أوجها. أو الهروب الى الأمام، والاستمرار في حرب قد تكون محسومة النتائج، يبقى الربان فيها شاهدا على غرق سفينته حتى النهاية.

http://joumananammour.com/?p=626

السابق
الأحزاب تتخطى خصوصية الطلاب في AUB
التالي
محنة الديمقراطية مع اليساريين