سوق الخان في حاصبيا.. ترميم ينقله إلى الحضارة

سوق الخان أحد أقدم الأسواق الشعبية في لبنان، يتوسط مناطق حاصبيا والعرقوب ومرجعيون، يقصده التجار والمواطنون من الجنوب والبقاع وجبل عامل، وقديماً من الحولة والجليل وفلسطين وحوران والجولان، لتنشط فيه مختلف أنواع المتاجرة ومنها المقايضة، أي تبادل بضائع بأخرى، ورزق برزق. وفي مقدمتها المواشي والزيتون وبعض الصناعات المحلية خصوصا الفخار، بمنتوجات زراعية، كالحبوب والليمون والموز. كما كان السوق محطة إيواء قوافل البغال والجمال والدواب، القادمة من أنحاء جبل عامل وصفد والحولة إلى بلاد البقاع وسوريا.

سمي السوق نسبة إلى الخان الكبير، الذي بناه والي المنطقة آنذاك، أبو بكر الشهابي سنة 1350، مستعملاً في تشييده الحجر القديم، والكلس والتراب الأبيض، في حين حافظ السوق حتى الأمس القريب على طرازه القديم، بحيث يفلش التجار بسطاتهم تحت شوادر وخيم من القماش، ويعرضون بضاعتهم فوق الحجارة أو على ألواح خشبية، أو أمام حيواناتهم وسياراتهم العتيقة، وذلك يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
دخل السوق ابتداء من العام 2005، في طور جديد مغاير من الحداثة والرقي، عبر مشروع حضاري ممول من وكالة التنمية الأميركية بتنفيذ مؤسسة ميرسي كور، التي أنجزت مخططا كاملا متكاملا، يجعل من السوق القديم إضافة إلى مركزه التجاري، محطة لمختلف النشاطات الثقافية والفنية والاجتماعية، وإلى فسحة للاستجمام في اوقات العطل والأعياد، ومقصداً في المناسبات والمهرجانات السياسية المتنوعة.
يمتد السوق، على مساحة تزيد على ثلاثين ألف متر مربّع، بمحاذاة الضفة الغربية لمجرى نهر الحاصباني، تنتشر فيه البسطات الشعبية مثل المكسرات والفلافل واللحوم المشوية، التي تجذب الناس إليه، فضلاً عن البضائع الزهيدة الأثمان، والتى يحضرها البائعون من مناطق النبطية والجنوب والبقاع، كما بات السوق بعيد العام 2006، مقصد عناصر قوات “اليونيفيل”، الذين تشدهم الأواني الفخارية والمصنوعات اليدوية والفضية، والبساطة الشعبية.
أبو عادل، أحد المعمّرين (82 عاماً) فى منطقة حاصبيا، يعيد أهميّة السوق إلى قدمه وموقعه الجغرافي في نقطة وسط بين وادى التّيم وجبل عامل وسوريا وفلسطين والأردن، ما يجعله ملتقى للحضارات. ولكن ومع مرور السنوات، وبناء المجمّعات التجارية الضخمة يضيف: تراجعت أهمية الخان الاستراتيجية، لكنّه يبقى قبلة للمئات من الذين لا يزالون يحنون لأيام البساطة، حيث “كنا نبدل التين بحلي سنونك، والزيت بالبندورة، والزيتون بالبطاطا، والحبوب بالتفاح، إنها مقايضة رزق برزق. تلك كانت سمة تجارة هذا السوق، الذي سيبقى يشكّل بالفعل همزة وصل بين الماضي والحاضر، هو سوق استمر فيه التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والتجاري منذ أكثر من ألف سنة حتى اليوم”.
يشير المؤرخون ومنهم الكاتب الشيخ غالب سليقا، إلى أنه كانت قد جرت في سوق الخان، أولى معارك الكجك أحمد باشا والمعنيين، وقُتل في هذه المعركة الأمير علي بن الأمير فخر الدين، كما قُتل فيها الشيخ غضبان العماد إلى جانب الأمير علي. وقد تعددت مصادر الأخبار حول المعركة، وحسب الجيوفاني ماريتي، كان الأمير علي وعمه الأمير يونس يعتمدان على الشجاعة المطلقة، وكانا قليلي الحذر. وقد نصحهما أحد المشايخ والمعروف بأبي نادر باتخاذ الحيطة، ووضع المناورة وعدم التورط بمعركةٍ فاصلة مع العثمانيين، حيث كان اللبنانيون حينذاك يقومون بغاراتٍ موفّقة على العثمانيين، بقيادة الأمير علي، ويعودون من غاراتهم من دون أن ينال الجيش العثماني منهم منالاً. ضاق العثمانيون ذرعاً فاستدرجوا الدروز إلى السهل، حيث دارت معركة كبرى هاجم فيها الأميران علي ويونس بشجاعة فائقة، وبقي الوضع غير واضح لساعات، ثم ابتدأ يميل لمصلحة الدروز، ولكن حدث أن أصيب حصان الأمير علي، فسقط أرضاً ثم أصيب الأمير علي نفسه، كما أصيب عمه الأمير يونس وقُتلا.
اليوم، تقطع السوق طريق ضيقة للسيارات، تُقام حولها محلات صغيرة، وإلى جانبها خيم لاستيعاب البضائع. وهو متعدد الأجنحة: إلى يمين الطريق بين أشجار الكينا والسرو تُعرض البضائع المتنوعة كالثياب الجاهزة والأثواب والسجاد والأحذية والأدوات المنزلية، والأواني الفخارية التي تشتهر بصناعتها راشيا الفخار. وإلى يساره تعرض جميع أنواع الفاكهة والخضار والحلويات، فإذا نزلنا قليلاً نجد سوقا كبيراً لبيع اللحوم ولشواء اللحم، وإلى الأسفل هناك سوق كبير لبيع الحيوانات المختلفة من بيع وشراء ومقايضة. كما يوجد جناح للشتول المتنوعه من أشجارٍ مثمرة وحرجية وزهور متعددة، ويلاحظ القاصد لهذا السوق، أن دوراً كبيراً من التفاعل الاجتماعي والاقتصادي، يتم فيه، لما يحويه من أجنحة وبضائع ومشتريات وأدوات حرفية، ولما يصدر عنه من ضجيج وأصوات ومناقشات ولهجات محلية. ويقول الدكتور مصطفى بزّي “كان قديماً المحطة الرئيسة للمبادلات التجارية بين مرجعيون وقضائها من جهة، ومناطق الحولة وطبريا وصفد وحاصبيا وحوران والجولان والبقاع وزحلة من جهة أخرى”. ويجري التفاعل الاجتماعي والاقتصادي في التلاقي الفردي والجماعي بين أبناء القرى والمدن، وهناك يكون التلاقي والاختلاط، تتمازج اللغات واللهجات، في جوٍّ اجتماعي، تجعل منه مكاناً يحافظ على العادات والتقاليد، حيث الناس يُبدون كثيراً من الكرم والجود وحسن الضيافة، وبقيت هذه العادات قائمة في هذه الأسواق الجنوبية وخاصة الحرمونية.
بلدية حاصبيا وضعت السوق ضمن اهتمامها، فتعاونت مع جهات ممولة أجنبية، وعملت على تحويله إلى سوق حضاري، وبنائه من جديد بحسب الطراز القديم مع عدة إضافات عليه، فكان أن وزعت الأشغال على مساحة 8000 متر مربع، اضافة الى ترميم الخان فوق مساحة 4000 متر مربع. وشمل المشروع بناء 80 محلاً تجارياً سقفت بالقرميد، احيطت بمواقف تتسع لمئتين وخمسين سيارة. تتوزّع بداخله مساحات خضراء تبقي الأشجار القديمة، ويضم المشروع مسلخا وحمامات ومعرضا متعدد الأغراض مبنيا من الاسمنت المسلح، وتقوم على سطحه محال لبيع اللحوم. وهذا من تراث سوق الخان. كذلك يضم المشروع الذي وصفه رئيس بلدية حاصبيا السابق أمين شمس بـ”سوليدير حاصبيا”، حديقة عامة مجهزة بمقاعد وملهى للأطفال مع حراسة دائمة تحت إشراف البلدية.
أعمال الترميم شملت الخان الشهابي القديم كذلك، بجدرانه الخارجية، وأسقف وبقايا أعمدة، يعاد ترميمها باستخدام المواد المصنوعة منها سابقا، مع الحفاظ على طابع التراث القديم والذي يعود الى أكثر من 700 سنة. وتجري عمليات الترميم بناء على اتفاق مسبق مع المديرية العامة للآثار، على أن يضم الخان قاعتين مبنيّتين من الحجر الصلب، على شكل عقد قديم، مع بعض الممرّات والغرف الصغيرة التي لا تزال قائمة، وترمّم جميعاً بتقنيات عالية، تضاف الى ذلك مساحة من أرض الخان مرصوفة ببلاط حجري صم.
ًويلفت رئيس بلدية حاصبيا السابق الشيخ غسان خير الدين، إلى أن الخان سيكون بعد إنجاز العمل، مركزاً ثقافياً وسياحياً، إضافة إلى الأعمال التجارية. ويدرج ضمن إطار خطة إنماء شاملة، علما بان تكلفة المشروع بلغت نحو 250 ألف دولار. أما الخان الشهابي فقد بلغت كلفة ترميمه نصف مليون دولار. ويشير إلى أن “ورشة الإعمار استوعبت اليد العاملة الفنيّة في المنطقة ووفّرت فرص عمل لعشرات الشبّان”. وعن نشاط السوق في المستقبل يضيف “سيتحول الى سوق شبه دائم لتوافر كل المقوّمات والخدمات، على نحو يتيح فرص عمل من نوع آخر، إضافة الى مردود مادي لا يقل عن عشرة ملايين ليرة لبنانية في الشهر للبلدية”.

السابق
بالصور: هكذا يضربون حيدر في الضاحية
التالي
بري: لا مانع من تحويل الجلسة الى جلسة انتخاب الرئيس