الحلف الدولي ضد «داعش» بطيء وغير جدي

أوباما محق.. قال إن حرب «داعش» ستستغرق سنوات عديدة، ويبدو لنا الآن أنه لم يكن يتنبأ بقدر ما كان يقرر.

لا أصدق، وكثيرون غيري أعرفهم لا يصدقون، أن الولايات المتحدة صارت فجأة دولة ضعيفة لا تملك القوة أو الإرادة لتتدخل في سورية والعراق بقوات في الجو وعلى الأرض وفي البحر كافية لوقف تمدد «داعش» ومطاردة أفراده وقياداته في وقت قصير.

نسأل، وتتدفق علينا رسائل المهتمين والقلقين والمتشككين تسأل، إن كانت أميركا وحلفاؤها، بخاصة العرب منهم، جادين في حربهم ضد الإرهاب الإسلامي في أشكاله الجديدة. لا ينقصني، من دون شك، ولا ينقص الكافة الدليل على جديتهم. المؤكد بالنسبة لنا كمراقبين هو أن الجهد العسكري والسياسي من جانب الحلفاء لا يرقى بأي حال وبأي معيار إلى مستوى الخطر المزعوم أو الحقيقي الذي تمثله هذه التنظيمات الإرهابية في منطقة المشرق وشمال إفريقيا.

عدم الجدية، هل هو سمة هذا الحلف الجديد تحديداً وحصراً، أم أن كل دول الحلف أصابها داء البطء الشديد في اتخاذ القرارات وتسيير الجيوش وتعبئة الرأي العام؟ لا أحد يبدو في عجلة من أمره. حتى إسرائيل، وهي ليست عضواً فاعلاً أو صريحاً في الحلف، تتصرف كما لو كان هذا التنظيم الإرهابي يعمل في وسط آسيا أو في أفريقيا بعيداً من حدودها ومجال أمنها القومي الذي طالما حذرت إسرائيل جيرانها العرب من تعكيره، وهو المجال الممتد أحياناً إلى حدود إيران الشرقية وشواطئ العرب الأطلسية غرباً وأثيوبيا وباب المندب جنوباً. إسرائيل نراها ساكتة تماماً وهادئة كلية تراقب في غير قلق أو انفعال. وكذلك الغالبية العظمى من الأطراف العربية في الحلف، يتصرف الجميع كما لو كانوا ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شهوداً على إقليم يتشكل من جديد على نار ساخنة. يعتقدون أنهم يفهمون ويشاركون، والأغلب هو أن طرفاً عربياً أو آخر قد يكون مطلعاً على تفاصيل شيء محدد من بين أشياء كثيرة تجري حوله، ولكني أشك في أن طرفاً عربياً واحداً مطلع على تفاصيل الصورة الكاملة لكل الأشياء. والدليل هو هذا السلوك السياسي المعيب من جانب الأطراف العربية.. لا أستتثني أحداً، حتى الحكم السوري لا أستثنيه. أفهم تماماً انشغاله بتدهور الأمور في المواقع ذات الأغلبية العلوية التي تحملت خسائر بشرية ومادية جسيمة في حرب أهلية طالت وتمددت. السوري مهتم طبعاً بما يحدث بين «داعش» والمقاتلين السوريين من الأكراد في عين العرب. هو أيضاً كاهتمام العاجزين عن التصدي لنوايا الرئيس أردوغان وأطماعه في شمال سورية. أظن أن حكام سورية صاروا أقل خوفاً من أميركا ولكن أشد خوفاً مما تدبره لهم أطراف عربية في الحلف، بخاصة الأطراف الخليجية. لم يعد سراً ما يتردد في صالونات دمشق من أن دول الخليج تضاعف حالياً جهودها لتشجيع قادة من العسكريين السنّة غير الحزبيين لترتيب انقلاب عسكري في دمشق، يطيح حكم الرئيس بشار الأسد.. يتردد في الوقت نفسه وفي الصالونات نفسها، أن تركيا من جانبها تسعى للشيء ذاته ولكن بقيادة إسلامية التوجه، وتفضل أن تكون «إخوانية» التاريخ والانتماء.

ولا يخفي بعض أهل دمشق اقتناعهم بأن أميركا، استناداً إلى سوابقها، تميل إلى المسعى التركي أكثر مما تميل إلى المسعى الخليجي.

مظهر آخر من مظاهر البطء، أو التباطؤ، هو ما يحدث في العراق على المستويات والأصعدة كافة، ابتداء من تشكيل حكومة جديدة إلى تحركات عسكرية أو تغيير قيادات الجيش إلى الدور المفترض أن تقوم به القيادات الدينية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق وأمام خطر داهم على وجود العراق ككيان سياسي. العراقيون العاديون يعرفون أن الهدوء والسلام لن يعودا قبل أن يحسم الخليجيون الفرس والخليجيون العرب سباقهم على مستقبل العراق وقبل أن يكتسب المجتمع الدولي شجاعة تتطلبها المواجهة مع المسألة الكردية.

في ظل هذا البطء من جانب الأطراف كافة، أتصور أن القيادة المصرية وجدت فرصتها في اختيار بدائل عمل خارجي بعيدة من الضغوط الإقليمية والدولية. القاهرة في ظني كانت تخشى أن تتصاعد حرب «داعش» بين الطرفين إلى حد يدفع قادة الحلف وأطرافه العربية الرئيسية الى طلب اشتراك مصر فوراً بثقل عسكري وسياسي في سير الحرب، وكذلك بطلب الضغط على النظام السوري والوقوف بحزم «أشد» ضد نيات تركيا. لم يحقق الضغط ثماره، ربما لأن القاهرة منذ البداية، وبوعي موروث للفكر الاستراتيجي الذي عاد يتبناه نظام أردوغان- داوود أوغلو، أسرعت بتأكيد موقفها من مستقبل الكيان السوري ورفض الاستمرار في المطالبة برحيل الأسد والإصرار على إبقاء باب التواصل مع حكومة دمشق مفتوحاً. أدركت القاهرة أخيراً، وهي المثقلة بهموم عدة، أنها يجب أن تقاوم إغراءات وضغوطاً خارجية تدفعها نحو دور خارج زمانه. وبالفعل قاومت، فالاحتمالات كثيرة ومخيفة، وبدائل العمل قليلة، وتشرذم الحلف صارخ ومهين للعرب، وموقف أميركا معيب بكل الحسابات. كان منطقياً في كل الأحوال، والأمور على هذا النحو من البطء أو التباطؤ في جهود الحلف، أن تركز مصر على جبهتيها الداخلية والغربية.

قد يبدو هذا الحذر المصري مفيداً لحكومة أردوغان، بمعنى أنه يحيد نفوذ مصر الإقليمي في هذه المرحلة المهمة من مراحل تطور الشرق الأوسط. القاهرة ليست غافلة تماماً عن أن تركيا بقيادة أردوغان تفكر في «اليوم التالي» لهزيمة «داعش» أو لسقوط سورية، أيهما أقرب. قد يكون من قبيل الوهم الحديث عن استعادة تركيا زمام حلب والموصل وكركوك، كتنفيذ متأخر جداً لمطالبها في مفاوضات الحرب العالمية الأولى. ولكني أعتقد أن أردوغان مطمئن بشكل من الأشكال إلى أن أميركا قد تفكر في إرضائه أو تعويضه بتقديم وعد بمساعدته في تحقيق هذا الهدف، ولعل الأزمة الناشبة حالياً حول مساعدة الأكراد الذين يقاتلون «داعش»، وخشية تركيا من امتداد هذه الحرب إلى داخل الأراضي التركية وراء السعي التركي للحصول من أميركا على التزام مبكر في شأن دورها ومكانتها في الشرق الأوسط صبيحة «اليوم التالي» لانتهاء أزمة «داعش» أو انفراط سورية، وقبل أن تستعيد مصر دورها الإقليمي ويخرج العرب من أزمتهم التاريخية.

يلمح أنطوني كوردسمان، الباحث الأميركي المعروف، إلى أن أميركا أخطأت حين تعاملت مع الشرق الأوسط كما تتعامل مع أقاليم أخرى، فقد دأبت واشنطن خلال العقود الأخيرة على الانسحاب من مواقع نفوذها حول العالم. تارة تنسحب من أوروبا الغربية وتارة أخرى من آسيا وتارة ثالثة من أميركا اللاتينية، لتعود إليها بعد فترة فتكتشف أن شيئاً جذرياً لم يتغير في غيابها.. وقد يكون أوباما اكتشف، وإن متأخراً، أن الشرق الأوسط مختلف عن بقية الأقاليم، لأنه لا يبقى طويلاً على حال، فأميركا إذا تركته أو تخلت عن مواقع قيادتها وممارسة نفوذها لفترة، ستعود بعدها لتجد العلاقات بين دول الإقليم تغيرت وموازين القوة تبدلت وبؤر التوتر اختلفت مواقعها.

المؤكد بناء على الطرح الذي قدمه كوردسمان، هو أن أميركا غابت عن الشرق الأوسط حين جربت التركيز على شرق آسيا والصين. ثم عادت إليه لتجد شكوكاً حقيقية وخطيرة تحيط بها وبسياساتها من كل جانب، ومن حلفائها قبل خصومها. تكاد لا تجد دولة عربية واحدة، حتى إيران وتركيا وإسرائيل، تثق في صدق نوايا أميركا، أو على الأقل في قدرتها على حماية مصالح حلفائها في الإقليم. بل صار في حكم المزاح تكرار القول إن أميركا اختلفت في نظر حلفائها لأنها قررت فجأة أن تقود من الخلف، فالواقع يشهد أنها لا تقود من الأمام ولا من الخلف. كل ما تفعله إدارة أوباما هو أنها تعد قوائم بدول تشكل منها حلفاً على ورق يقاوم تنظيماً إرهابياً أو وباء أفريقياً أو كارثة بيئية.

الشرق الأوسط اختلف ولن يعود كما كان، ومهمة أطرافه تزداد تعقيداً وصعوبة، بخاصة مهمة أميركا، سواء قادت من الخلف أو من الأمام. أميركا عادت إلى الإقليم يسبقها فشلان هائلان، فشل في أفغانستان وفشل في العراق، والفشلان رسخا في الرأي العام العربي وعقول الحكام العرب، ولعلهما يشكلان الآن الأساس لخلفية مشهد عدم الثقة الإقليمي في قيادة أوباما وفي سياسته الخارجية.

يبدو لي واضحاً من سلوكيات دولية عديدة، أن أغلب حكومات العالم وصلت إلى اقتناع بأن سياسة أميركا الخارجية في مجملها، وأحيانا في تفاصيلها، معيبة أو قاصرة. هذا الاقتناع، سواء ازداد رسوخاً أو انحسر نسبياً، لن يغير الكثير في المنظومة السياسية الأميركية، بخاصة الجزء المتعلق بالسياسة الخارجية والأمن العالمي. التغيير في هذا الجزء لن يحدث إلا إذا أدرك الرأي العام الأميركي الأبعاد الحقيقية لهذا الانحدار في مكانة أميركا الدولية، ومدى التقصير في الأداء، وأسبابه الواقعية ومبرراته الأيديولوجية، إن وجدت.

السابق
زعيم تحت علمين
التالي
مجلس الخبراء بعد رحيل مهدوي كاني