مشاريع صيدا البيئيّة: بين الشعارات والواقع

تُولد هذه المشاكل وتتحول الى كوارث عندما تُخْفي مشاريعُ اليوم مشاكلَ المستقبل وتُؤَجّل حلّها الى زمن آتٍ لترهق بها أجيالاً لاحقة وتثقل بها جداول بلديّات مقبلة…

جبل النفايات في صيدا هو مثلٌ متجددٌ لهذه الظاهرة المتكررة في المدن اللبنانية. فمنذ ثلاثين عاماً، مثّل إنشاء الجبل (وكان تلاً حينها) إجراءً آنيّاً وضروريّاً لتجميع الردميّات الناتجة عن الإجتياح الإسرائيلي في منطقة صيدا وللتخلّص من النفايات المتراكمة داخل أحياء المدينة والقرى المجاورة. هذا الإجراء كان حلاً بيئيّاً لكل المدينة مجنّباً إيّاها مشاكل جمّة حينها، ولكنّه راكم كارثة بيئيّة ما انفكت تجتاح المدينة وتلوّث بحرَها وسماءَها طوال ثلاثين عاماً… وتعود بلديّة صيدا اليوم لترصد لها 20 مليون دولار لحلّها.
لم يكن جبل النفايات المشروع الوحيد الذي صدّر مشكلةً ما الى مكانٍ وزمانٍ مختلفين. ففي منتصف الثمانينات، أقدمت بلديّة صيدا على حلّ مشكلة تلوّث أنهار المدينة (البرغوث، عين زيتون، القملة، بو غيّاث) من جرّاء المجارير التي تصب فيها والتي كانت تسبّب مضاعفات، لا داعي لسردها، في البيئة الصحيّة للأحياء السكنيّة التي تمر فيها تلك الأنهار الملوّثة. كان الحل “الأسهل” حينها تحويل مجاري الأنهار المكشوفة الى قساطل اسمنتيّة مُحْكَمَة تَعزِل كلَّ محتوياتها عن سطح الأرض وتجرها الى البحر. وفي التسعينات، تمّ إنشاء محطّة سينيق لتكرير المجارير وحُوِّلت معظم شبكات الصرف الصحي في المدينة اليها، ما عدا مجاري الأنهار الأربعة لأن الأنهار، بطبيعتها، تحمل كميات كبيرة من مياه الأمطار والترسبات النهرية كالأتربة والطمي وأغصان الأشجار وهذا ما لا تتسع له الشبكة. ولهذا نرى المجارير اليوم على طول شاطئ المدينة حيث مصبّات الأنهار، ومنها ما تحوّل الى مستنقعات آسنة كمصب عين زيتون بعد إقامة الحاجز البحري الجديد الذي حجز المجارير خلفه. وبعدما قامت البلدية أخيراً بشرك مجرى القملة بالشبكة لحماية موسم السباحة على المسبح الشعبي، اضطرت الاسبوع الماضي الى إعادته ليصب في البحر بعد اشتداد المطر وارتفاع منسوب النهر.
ان سياسة إغلاق الأنهار والمجاري الشتوية واخفائها داخل المدن كانت متّبعة في القرن الماضي على نحو واسع حول العالم. ولكننا نشهد اليوم مراجعة جذريّة لهذه السياسة تصل حد إزالة الأغلفة الاسمنتيّة وكشف الأنهار لتلعب دورها الطبيعي في تصريف مياه الأمطار وإغناء قلب المدن بإعادة الطبيعة اليها. ويترافق ذلك حكماً مع العمل على فصل شبكات الصرف الصحّي عن قنوات مياه الأمطار والأنهار بشكل كامل.
من المؤسف أن نرى اليوم بلديّة صيدا مصرّة على الاستمرار في اتباع المنهج القديم مع الجزء المكشوف المتبقّي من مجرى القملة بين خط السكّة والقيّاعة وشروعها بتحويل جزء منه (حوالى نصف المسافة) الى قسطل اسمنتي حجمه 1,65م بـ1,45م بدلاً من عزل المجارير عن النهر وتحويلها في قسطل لا يزيد حجمه عن 50 سم، كما أوصت الدراسة التي أعدّها مدير محطة سينيق. علماً أن الحل البديل يزيل مشكلة المجارير المكشوفة من كل منطقة الوسطاني (بدل نصفها) ويقلل من احتمال وصولها إلى شاطئ صيدا.
تكمن الأزمة الحقيقية في الترويج للحلّ الإسمنتي على أنّه”حل بيئي”، بينما هو في واقع الأمر مشروع تلويث. فهو يلوث شاطئ البحر ويبث روائح المجارير في هواء النصف الباقي من منطقة الوسطاني التي لا يشملها المشروع لعدم كفاية التمويل المتوفّر. هذا مع العلم ان البديل المقترح يقدم حلاً شاملاً لكل مسار المجرى في صيدا وبتكلفة موازية للحل المجتزأ، ويحافظ على النهر علّه يكون أساساً ومرتكزاً لمساحة عامة خضراء تتوسط احياء الوسطاني والقناية مستقبلاً.
ان إصرار المسؤولين المكلفين بتنفيذ هذا المشروع، رغم كل مساوئه الآنية والمستقبلية، على المضي في تنفيذه يثير الكثير من التساؤلات حول أسباب ذلك الإصرار. وهذا يذكرنا بالتساؤلات الخطيرة التي أثيرت حول مشروع إزالة جبل النفايات، وهو مشروع “بيئي” آخر. فإن سرعة إنجاز المشروع، الذي اعتبرته البلدية إنجازاً تاريخياً لها، لم تجعلها تتساءل عن سرّ القدرة الخارقة لآلة الفرز اليتيمة التي استخدمها المتعهّد لالتهام آلاف الأطنان من النفايات وفرزها بحسب المعايير البيئيّة في زمن قياسي. ناهيك عن عمليات الردم المباشر في البحر التي شهدت عليها ووثقتها الصحافة المرئية والمكتوبة بالاضافة الى شهود عيان من أبناء المدينة…
الجبل الذي لوّث منظر وهواء المدينة أزيل فعلا عن سطح الأرض ولكن ليستقر جزء منه في قاع البحر والجزء الآخر في الحوض البحري المستحدث، لكن من دون المعالجة الكاملة من فرز للمواد الصلبة واستبعاد النفايات الطبيّة والسامّة.
من الواضح أن بلدية مدينة صيدا تبذل جهوداً ملحوظة في التعبير عن التزامها “بالحلول البيئية” لمشاكل المدينة وكذلك في تبنّي شعارات حماية البيئة التي تزيّن الكثير من بياناتها وتصاريح المسؤولين فيها ووكلائها الدعائيين. لكنه من الواضح أيضا أن هناك غياباً لتبنّي المعيار المهني الصادق الذي يعرّف “المشروع البيئي” المستدام ويحققه على أرض الواقع.
لن تدفع هذه البلدية ثمن المشاكل الجديدة التي ستظهر في العقود المقبلة نتيجة سياساتها الحاليّة. هو المنطق السالف نفسه الذي أجبر هذه البلدية على التعامل مع المشاكل البيئية التي ورثتها عن بلديات سابقة عليها في الزمن كانت تساهلت وتهاونت وقصّرت. ولكننا للأسف، لا نستطيع عملاً غير رفع الصوت والتعبير بصدق وأمانة علمية عما نراه من مصلحة المدينة آملين من البلدية التزام الشفافية والتعاطي بجدية مع الملاحظات على عملها مقابل التخفيف من الدعائية المفرطة في تناول “إنجازاتها”.

السابق
كيري وإيران: لا رفع للعقوبات ولا تجاوز للكونغرس
التالي
مؤتمر برلين: عنوان إنساني.. بألغام سياسيّة