قنبلة نتنياهو النتنة

الميل الطبيعي هو ترك نتنياهو يتمتع بالشك، وافتراض عدم إدراكه أبعاد كلامه. ربما أنه أغرم أكثر من اللازم باللعبة الإعلامية التي خلقها، كما يحدث معه مراراً، لذلك لم يفكر حتى النهاية. فأنت لا تريد أن يخطر ببالك أن رئيس حكومة إسرائيل ألقى قنبلة نتنة على الولايات المتحدة بشكل مقصود. كما لو ليس غد هناك.

ورغم ذلك ينهار الشك. يمكن قول الكثير عن نتنياهو. لكنه ليس أحمقَ. إذن كيف رغم ذلك داس على هذا اللغم، رغم كل شارات التحذير التي تدفعه للتفكير مرتين على الأقل؟ كيف تجرّأ على وصف انتقادات البيت الأبيض للاستيطان في القدس الشرقية بأنها «تناقض القيم الأميركية» من دون تفكير بوقع هذه الكلمات؟ كيف بلغنا وضعاً يصف فيه الناطق بلسان البيت الأبيض كلام نتنياهو بـ«الغريب» ويضيف لذلك صفعة علنية لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات بين زعيمي الدولتين؟ بكلمات أخرى: ماذا يفكر نتنياهو؟ ماذا خطر بباله بالضبط؟
وأولاً هناك الغطرسة والادعاء بتقديم الوعظ لأمة أخرى حول ما يناسب أو يعارض قيمها (إلا إذا قفز لنتنياهو الأميركي الذي بداخله، ربما عندما كان يعرف ببن نيتاي وقتما كان طالباً في أميركا). تخيلوا الضجة التي كان سيحدثها أوباما لو رد لرئيس الحكومة بالعملة نفسها وأعلن أن الاستيطان في شرقي القدس لا يقضي على فرص السلام وحسب وإنما «يعارض القيم اليهودية». يمكن فقط تخيل الغضب المقدس الذي كان سيطفح في تل أبيب والصدمة التي كانت ستحلّ على زعماء اليهود في أميركا، والمداولات العاصفة في شبكة فوكس عن اللاسامية المعششة في البيت الأبيض والحاجة لإعادة النظر وإطاحة الرئيس.
بعد ذلك كنت أتوقع من خبير في أميركا مثل نتنياهو سيفترض سلفاً أن العنوان الذي سيعطى لأقواله سيرفق بعبارة «غير الأميركي» التي لها معنى تاريخي واحد: لجنة مجلس النواب للنشاط المناهض لأميركا، والسيناتور سيئ الصيت جو مكارثي. بحيث إن من يتهم البيت الأبيض بأنه «لا يعبر عن القيم الأميركية» يثير انطباعات سيئة ويستدعي بالضرورة رداً تاريخياً ساحقاً كالذي وجهه المستشار القضائي للجيش جوزيف وولش لمكارثي في حزيران 1954: «سيدي، ألم يبق لديك أي حس بالنزاهة؟».
لكن الأخطر من ذلك ولم نقله: أن باراك أوباما هو آخر رئيس أميركي يمكن لزعيم أجنبي وصفه بـ«غير الأميركي» أو وصف مواقفه «بأنها لا تعبر عن القيم الأميركية». فهذا بالضبط هو الزعم المغرض لكارهي أوباما الأسوأ، ممن يزعمون أنه لم يولد في أميركا وإنما في كينيا، وحتى إذا ولد في أميركا فهو نبت غريب، إن لم يكن عميلاً أجنبياً، وهو غير أميركي بالتأكيد. وعن طريق المس بالعصب المكشوف والأشد إيذاء لأوباما، من الجائز أن نتنياهو حرق آخر جسوره ليس فقط مع نتنياهو وإنما أيضاً مع كبار مستشاريه.
وهذا هو الطاقم الكبير في البيت الأبيض يدافع عن أوباما بحماس ويشعر بالمهانة باسمه أكثر منه، وأحياناً يرى ظل الجبال جبالاً، وهو مقتنع اليوم بأن نتنياهو ليس صدفة ركز على عدم أميركية أوباما بعدما التقى بأشد الأشكال فظاظة مع شلدون أدلسون، الذي يعتبر العدو رقم واحد للحزب الديموقراطي. ويقولون في البيت الأبيض إنهم هكذا يتحدثون في محيط أدلسون، حينما يظنون أن لا أحد يسمعهم.
لكن نتنياهو لم يقل كلامه في غرفة مغلقة وإنما من فوق المنبر. بعد أن أصدر الحكمة أمام المراسلين الإسرائيليين كرّرها وطوّرها في سلسلة مقابلات مع محطات تلفزة أميركية. يمكن فهم إحساس نتنياهو بالحاجة للردّ بشدة على ما بدت له انتقادات مبالغاً فيها من البيت الأبيض للاستيطان في القدس، الذي يحظى بإجماع الإسرائيليين والمؤسسة اليهودية في أميركا. والمشكلة هي أن لسان نتنياهو لم يتوقف عند الإشارة الحمراء، وانجرّ للغة تناسب مهووسي حفل الشاي وليس زعيم دولة تقيم، ظاهرياً، «علاقات خاصة» لا نريد القول علاقات تبعية – مع الرئيس الأميركي.
ومحاولة نتنياهو عرض بناء حي جديد في تلة الطائرة وإسكان شقق في حي سلوان كمسألة يسيطة تتعلق بـ«حقوق الملكية» من دون الحديث عن زعمه بأن الانتقادات الأميركية تعني «تطهير عرقي» أثارت في واشنطن السخرية، لكن هذه كانت لا شيء مقارنة مع الضحكات الصارخة التي رافقت زعمه بأن العلاقات بينه وبين البيت الأبيض هي كالعلاقة بين زوجين. ربما زوجان دمويان مثل مايكل دغلاس وكاتلين ترنر في الكوميديا السوداء «حرب روز ضد روز» العام 1989، كما قال لي بمرارة مراقب في واشنطن. وأضاف، لو كانا حقا زوجين، لركض أوباما منذ زمن للمحكمة طالباً إبعاد شريكه بشكل دائم عن البيت.
على المستوى التنفيذي والمهني، لا تزال العلاقات بين الدولتين جيدة، بل ممتازة، رغم أن المرارة في القمة تترك أثراً سلبياً على الأدنى. ربما نتنياهو يظن أن هذه ضرورة في ظل الخلافات الجوهرية مع أوباما، وربما أقنع نفسه أن الرئيس سيغدو قريباً بطة عرجاء، حينما يسيطر الجمهوريون على مجلس الشيوخ في الانتخابات المقبلة. وربما أنه لن يفكر في الأمر.
لكن الدولتان تقتربان حالياً من مواجهة هائلة ومفترق طرق تاريخي. وإذا توصلت واشنطن وطهران لاتفاق نووي بينهما سيتطلب الوضع جهوداً جبارة لمنع شرخ بين الدولتين، سواء قررت إسرائيل تنفيذ عمل أو جلست جانباً ترطن. وفي ضوء الأهمية الوجودية التي يوليها نتنياهو لمناهضة النووي الإيراني يتعذّر فهم كيف يسمح لنفسه بالتشاجر حالياً مع الرئيس على مستوى شخصي، ولماذا يخرب بيديه على مكانته وقدرته للتأثير على أوباما لحظة الحقيقة، في أمر يعتبره مصيرياً.

 

السابق
يأس أميركا من نتنياهو
التالي
اطلاق رصاص في الهواء خلال تشييع محمود المانع