النصّ سيف السلطة

تحتاج الأديان، جميعها من دون استثناء، إلى نصوص مكتوبة تتضمن عقائدها ومبادئها المرشدة في جميع المجالات، وتحدد للمؤمنين بها وسائل ممارستهم لما تفرضه من واجبات. تتخذ النصوص وجهة أبعد من التوجيهات والمبادئ، فتهيمن عليها الهالة الإلهية، لكونها تمثّل شكلاً من أشكال حضور الإله بين البشر بطريقة متواصلة، وهو ما يتمثله المؤمن في قراءته للنصوص أو تلاوته لآياتها. فهي الوسيط بين الله والبشر، وعبرها يتلمّس المؤمن سبل اتصاله بالله والعمل وفق المعتقدات التي يكون الرسل والأنبياء قد نشروها بين أتباعهم.

النصوص والفكر الديني

من أخطر ما تواجهه الأديان هو الخلط بين النصوص الدينية المقدسة والفكر الديني الذي نشأ عن هذه النصوص، وأعطته المؤسسات الدينية القدسية نفسها المعطاة للنصوص التأسيسية. إذا كان النقاش مطروحاً حول النصوص التأسيسية نفسها، ومدى انتسابها إلى الله واعتبارها ثابتة لا تمس، فإنّ النقاش يصبح أعمق عندما يطاول الفكر الديني الذي أمكنه أن يزيح إلى حد بعيد النصوص الأصلية. في كل حال، تفرض قراءة النصوص الأصلية العودة بها إلى منشئها التاريخي، وإلى الظروف التي تكونت فيها، لفهمها فهماً صحيحاً.

يُجمع دارسو الأديان على أنّ النصوص المجموعة في كتب مقدسة لدى التوحيديين أو غير التوحيديين، تنتمي إلى مراحل تاريخية معينة من حياة الشعوب. هذه الكتب مشروطة بالزمان والمكان اللذين نزلت فيهما، ومحكومة بمسار التغيرات التي شهدها هذا المجتمع او ذاك، في المفاهيم والعقليات والعادات والتقاليد المتجذرة، وما تتركه من أثر في النص وحدود تجاوبه مع هذه التغيرات. تطرح هذه النقطة المسافة القائمة بين زمن الوحي الذي أنتجت بموجبه هذه النصوص، أي ما يُعرف بـ”الحدث التدشيني”، وبين الزمن الراهن الحامل التغيرات والتبدلات عن زمن الوحي. هذا يستدعي سؤالاً مؤرقاً حول صحة وصدقية ما وصلنا من نصوص، وما إذا كانت هي فعلاً تلك التي نجمت عن اللحظة التأسيسية لتكوّن الدين المحدد. كما تثير هذه النقطة مسألة خلافية متواصلة حول “ألوهية” النصوص، في وقت وصلت إلى البشرية من طريق رسل أو أنبياء أو منقذين، يحملون جميعهم صفات البشر. يضاف إلى هذه النقطة، الفارق الزمني البعيد بين الوحي ونزوله على الرسل من جهة، والتدوين الذي أتى بعد فترة زمنية بعيدة من جهة أخرى. لم يقم بهذا التدوين أصحاب الوحي أنفسهم، بل الأتباع في ما بعد، وفي زمن بعيد عن زمن النزول، وهولاء بشر أيضاً خاضعون لعامل النسيان أو النقل غير الدقيق، مما يطرح السؤال الفعلي حول النصوص نفسها، ومدى الزيادة أو النقصان والتحريف فيها. لا يرمي هذا التشكيك إلى التقليل من أهمية القيم الروحانية والأخلاقية والإنسانية التي تقول بها النصوص، إنما يهدف إلى وضعها في إطارها التاريخي، ونزع كل ما يُضفى عليها من هالات قدسية تضعها فوق الزمان والمكان، بما يؤدي إلى تحوّلها أفكارًا جامدة ودوغمائية.

النصوص التأسيسية

تعتمد الأديان، خصوصاً منها التوحيدية، نصوصاً دينية تعتبرها مقدسة، ومغلقة على أي تعديل أو تغيير. في اليهودية، هناك التوراة (العهد القديم) بأسفارها المتعددة. وفي المسيحية هناك الأناجيل الأربعة. وفي الإسلام هناك القرآن في شكل أساسي، ثم ألحقت به الأحاديث النبوية. صارت هذه النصوص محورية ومركزية في حياة الشعوب المؤمنة بها، وتحكّمت بثقافتها وبنمط حياتها. من الذي أضفى القدسية على هذه النصوص ؟ سؤال مطروح دائماً، سابقاً وراهناً. فهذه القدسية فرضتها إرادة المؤسسات الدينية والسياسية، وهي إرادة أسبغها البشر أنفسهم على ألوهية النصوص. فالكنيسة قررت أنّ الأناجيل الأربعة هي الأناجيل الصحيحة، وما غيرها باطل، وهذه معركة لا تزال مفتوحة منذ تأسيس المسيحية، واتخذت أبعادًا أكبر مع الإنشقاقات في الكنيسة، واتسعت مع الإصلاح الديني، وتطورت في عصر الأنوار الذي شهد “ثورة” فكرية وفلسفية ودينية أخضعت النص الديني، الإنجيلي والتوراتي، إلى مبضع النقد التاريخي، ونزعت عنه كل ما يتصل بالأسطرة، وجعلت العقل مقياساً لصحة هذا النص أو ذاك. لقد كانت المسافة بعيدة جدًا في المسيحية بين الخطاب الشفوي الذي صدر على لسان المسيح، وبين تدوين النص واعتباره رسمياً. يزيد المشكلة في المسيحية أنّ المسيح، كما هو معروف، قد تكلم باللغة الآرامية، فيما كُتبت الأناجيل لاحقاً باللغة اليونانية. على المنوال نفسه، سار الحاخامات اليهود عبر تكريس نصوص التوراة وأسفارها في وصفها النصوص اليهودية الصحيحة، ورفض أي تعديل أو نصوص أخرى موازية لها.

أما في الإسلام، فقد حصرت المؤسسة السياسية- الدينية النص المقدس بالقرآن خلال عهد الخليفة عثمان بن عفان، من خلال جمع المصحف الحالي المسمّى بالمصحف العثماني (نسبة لعثمان)، وإلغاء سائر المصاحف المتداولة، وهي عملية لم تجر بشكل سلمي وطبيعي، بل تكرست خلال الصراع على السلطة بين القبائل الإسلامية. كما حال المسيحية، جُمع المصحف استنادًا إلى الذاكرة الشفهية لحفظة القرآن، بكل ما يعنيه ذلك من احتمالات النسيان والخلل في الذاكرة نفسها، وخصوصاً أنّ المسافة كانت أيضاً بعيدة عن زمن تلفظ النبي محمد بالآيات القرآنية. لكنّ المؤسسة السياسية – الدينية أضافت على النص القرآني ما يُعرف بالسنّة النبوية، أي الأحاديث المنسوبة إلى الرسول. إذا كان النص القرآني مسلّما به في وصفه النص التأسيسي للإسلام، فإن الأحاديث النبوية تحمل الكثير من النقاش حول صحتها ومدى اعتبارها نصاً تأسيسياً يوازي القرآن. فالأحاديث كُتبت بعد 130 سنة من وفاة الرسول، وتصاعد العدد على مر السنوات حتى وصل إلى نحو 600000 حديث موزعة بين السنّة والشيعة، ولكل طائفة أحاديثها المختلفة عن الأخرى. لعل الإمام الشافعي هو من أكثر الفقهاء في الإسلام الذين جعلوا الحديث بمثابة نصّ قرآني.

الفكر الديني

تمثل النصوص التأسيسية أساس العقيدة الدينية، فيما يمثّل الفكر الديني مجمل الإجتهادات البشرية التي وضعها الفقهاء والعلماء استنادًا إلى النصوص المقدسة، لتوضيح معانيها وتأويلها وتقريب فهمها إلى الجمهور. في هذا المعنى يمكن وصف اللاهوت من مكوّنات الفكر الديني. لا شك في أنّ كل الأديان تحتاج إلى هذا الفكر. فالنصوص المقدسة، بالنظر إلى المجاز الذي تتسم به، وإلى الدلالات الرمزية التي تغلب عليها، يصعب فهمها من دون الشرح والتأويل. تقع المشكلة في كون المؤسسات الدينية والفقهية في جميع الأديان التوحيدية، تتعاطى مع الفكر الديني والتشريعات الناتجة منه، في وصفها تحمل قوة النص المقدس نفسه. باتت المؤسسات الدينية تنظر الى هذه الأحكام والإجتهادات والتشريعات البشرية بكونها نصوصاً مقدسة يستحيل تعديلها أو المسّ بها. تمددت هذه الإجتهادات لتتجاوز الأمور الدينية البحتة، وتطاول مجمل الحياة الدنيوية، بحيث بات مستحيلاً التمييز بين ما ينتمي إلى الدين وما يختص بالفكر الديني. وصف الإجتهادات بأنها ذات طبيعة إلهية، يمكن أن يصل باللاهوتيين إلى اعتبار البشر عاجزين عن التفسير ما لم تسندهم العناية الإلهية. بمعنى آخر، إنّ رجال الدين يمتازون وحدهم بهذه النعمة الإلهية التي تمكّنهم من تقديم الشروح اللازمة للنص الديني، وهي صفة يتمسك هؤلاء الرجال بها ويشددون على وجهتها لكونها تحمل من السلطة على البشر أكبر بما لا يقاس من السلطات الزمنية.

باتت كتب التفسير الديني جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الفكرية للأديان التوحيدية. من النادر أن تتم العودة إلى النص المقدس، بل تذهب الشروح فورًا إلى كتب التفسير هذه، بكل ما تحويه من اجتهادات متناقضة ومختلفة عن جوهر النص المقدس في كثير من الأحيان. لقد ولّدت نصوص التوراة والأناجيل والقرآن منظومة متكاملة من التفاسير والأدبيات التأويلية منذ ظهورها حتى اليوم.

قراءة النص الديني وتفسيره

تشكل قراءة النص الديني وتفسيره إحدى أعقد المشكلات وأخطرها في الأديان التوحيدية. يدل على ذلك، حجم النزاعات والخلافات بين المفسرين والفقهاء على امتداد التاريخ الديني حول قراءة النصوص المقدسة، وما تولّد من انقسامات بين الأديان إلى طوائف ومذاهب، ونشوب حروب أهلية داخلها لتعيين التفسير الصحيح والوحيد الذي يحمل وحده الحقيقة.

تقوم العقبة الكبرى من نقطة تحديد طبيعة النص الديني باعتباره كلام الله، وكون ما يتضمنه هو الوحي الذي نزل على الأنبياء، مما يضع حاجزًا في وجه التأويل أو التعديل. على رغم أنّ الواقع التاريخي ينفي وجود أدلة تؤكد أنّ هذه الكتب المقدسة هي من الله، لأنها كُتبت بأيدي بشر في ما يخص التوراة والأناجيل، ونطق بها الرسول في ما يخص القرآن. فإذا كانت هذه النصوص المقدسة متشكلة من لغة بشرية (العبرية أو الآرامية أو اليونانية أو العربية)، فهي تحتاج إلى وساطة بشرية لتأويلها وتفسيرها ونشرها بين الجمهور. لم تكن خافية على المؤسسات الدينية وعلى رجال الدين، في الأديان التوحيدية كلها، ضرورة التأويل والتفسير، فقدم الفقهاء واللاهوتيون أنفسهم في وصفهم الجهة القادرة وحدها على إنجاز هذه المهمة، واحتكروا القراءة، وأنتجوا تراثاً من الفكر الديني، شرحاً وتأويلاً، كما خاضوا معارك ضارية ضد كل من تسوّل له نفسه الانخراط في القراءة والتفسير خارج المنهج الذي يستخدمونه.

لا شكّ في أنّ النصوص الدينية تطرح في جوهرها معضلات فهمها وتأويلها. فمعظمها يعتمد لغة مجازية ورموزاً يصعب أن تدلنا إلى معناها الحقيقي إذا ما أُخذت بحرفيتها، فقد تؤدي إلى عكس ما تهدف إلى قوله، كما أنها تحوي نصوصاً متناقضة أحياناً في محتواها. المشكلة الأولى، هل نقرأ النصوص قراءة حرفية، أم أنّها قابلة لقراءات مختلفة تتصل بالزمان والمكان والتطور التاريخي، وتحتاج إلى مناهج علمية تساعد على التأويل؟ فالقراءة الغالبة حتى اليوم توثر الإلتزام الحرفي للنص، بما يؤدي إلى إسقاطات ناجمة عن اقتطاعه من سياقه التاريخي وظروف نزوله وتدوينه.

لم تنفصل يوماً قراءة النص الديني عن الواقعين الإجتماعي والسياسي ودرجة تطور المجتمع، وما ينجم عن ذلك من هيمنة قوى سياسية وصراعات على المصالح والثروات، مما يجعل التأويلات تتصل وثيقاً بمصالح سياسية وإيديولوجية، وفرض الفئة المنتصرة منهجها في التأويل والتفسير، وهذا شأن يشهد عليه التاريخان المسيحي والإسلامي. يعبّر قيام المدارس الفلسفية التي نشأت في سياق التعاطي مع النص الديني، نظرية وممارسة، عن حجم الصراع الذي اتخذه هذا الموضوع في التاريخ. شكلت مسألة الفهم الحرفي للنص إحدى المعارك ضد استخدام العقل القادر وحده على التحليل والتساؤل والتشكيك، والتوصل في النهاية إلى النتائج الصحيحة. وهذه من المعارك المفتوحة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

إذا كان الفكر الديني في المجتمعات العربية والإسلامية لا يزال يتخبط في كيفية قراءة النص الديني، ويحاذر الإجتهادات والتأويلات العلمية والعقلية، فإنّ الفكر الديني والفلسفي في الغرب المسيحي قد أخضع النص الديني للقراءة التاريخية والعلمية، واستخدم المناهج التي قدّمتها العلوم الإنسانية في ميادين الإجتماع والتاريخ وعلم النفس الديني والألسنية، ونزع عنه كل ما يتصل بالأساطير والخرافات البعيدة عن منطق العقل. لم تكن معركة إخضاع النص الديني للقراءة التاريخية سهلة، فقد دافعت الكنيسة عن معتقداتها وأسلوبها في القراءة دفاعاً مستميتاً، ونكّلت بالفلاسفة والمفكرين الذين تجرأوا على هذه القراءة، إلى أن أمكن حسم هذه الوجهة لصالح الفكر العلمي والعقلاني، إلى حد بعيد. أما في مجتمعاتنا العربية، فيواجه أصحاب القراءة العلمية والتاريخية هجوماً شرساً من المؤسسات الدينية ورجال الدين، ويُتهَم أصحابها بالإرتداد والكفر والهرطقة، ويُهدَر دمهم (على غرار ما أصاب فرج فوده ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وعبد المجيد الشرفي وغيرهم). على رغم كل هذه العقبات، تشقّ المدرسة التاريخية في قراءة النص الديني طريقها، وتسعى إلى قراءة تستوعب التطورات الحضارية وتوائم بينها وبين النص، بما يجعله متوافقاً مع العصر.

لن يكون من السهل على العقل الإسلامي المشبع بالدوغمائيات والثوابت، تقبّل القراءة التاريخية للنص الديني، لأنها ستنزع المسلّمات التي تقول بأن النص الديني هو كلام الله الحرفي النازل من السماء، والمنقول من الله على لسان الرسول. إنّ الشك في هذه المقولة قد يزعزع الكثير من الإيمانات الموروثة، ويخلق حالاً من الإضطراب النفسي وخلخلة في المنظومة الثقافية المبنية على هذا التصور للنص الديني. دفعت أوروبا ثمنا باهظا لهذا التشكيك في أرثوذكسية النص الديني، واستوجب الأمر قروناً من الصراع السياسي والفكري والعقائدي لتثبيت القراءة التاريخية والعقلانية. إنّ مجتمعاتنا العربية لا تزال في بداية هذا الطريق.

النص الديني في الممارسة

يشكّل النص الديني المرشد لجموع المؤمنين في اداء شعائرهم الدينية، وبناء ثقافتهم الدينية أيضاً، وهذا ما ينطبق على جميع الأديان الروحية. لكنّ النص الديني كان ولا يزال مادة استخدام خارج منطقه الأصلي الإيماني – الروحي – الأخلاقي – الإنساني. فالإستخدام الواسع للدين في الصراعات السياسية والإجتماعية، ودخوله طرفاً في حروب طائفية ومذهبية في أكثر من مكان في العالم، يحتل المساحة الأوسع في المجتمعات العربية والإسلامية في الزمن الراهن. فالتفسيرات المختلفة للنص الديني والمستخدمة من كل فرقة أو طائفة أو مذهب، كلّ منها يعتبر أنه التفسير الصحيح ويمثل الدين الحق، وما عداه يقيم في الضلال. عندما تنجدل هذه التفسيرات بالصراع على السلطة والهيمنة، تتحول إلى إيديولجيا تلهم الجماهير الغفيرة، وتلهب حماستها لارتكاب كل ما يلغي الطرف الآخر المخالف، وبشتى الوسائل، بما فيها القتل. يقدم التاريخ البشري لوحات قاتمة عن التوظيف السياسي للدين وإدخاله في النزاعات المحلية والنتائج الرهيبة المترتبة على ذلك.

في المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة، يجري استخدام الدين كإيديولوجيا لتبرير العنف. تستند الحركات الإسلامية والتيارات الأصولية إلى قراءة حرفية لآيات النص الديني، فتقتطعها من سياقها التاريخي، وظروف نزولها وزمانه ومكانه، وتعمل على إسقاطها على الزمن الراهن من دون أي اعتبار لما حصل من تطورات وتغيرات على امتداد خمسة عشر قرناً. الآيات المتصلة بالعنف في القرآن، مثلاً، تجري قراءتها بحرفيتها في وصفها كلام الله المنزل والثابت إلى أبد الآبدين، مما يعني إمكان استخدامها في كل مكان وزمان. التنظيمات التي تطبّق آيات العنف، إنما تحسب أنها تنفّذ إرادة الله. إنّ تجميد النص الديني يترك انعكاسات مدمرة في كل مكان، ويؤدي إلى نتائج خطرة عند وضعه في الممارسة. هذا ما عرفته أوروبا المسيحية، وهذا ما تشهده اليوم المجتمعات الإسلامية.

من النتائج المباشرة للقراءة الجامدة والحرفية للنص الديني، ما يتصل بتراجع سلطة العقل، “فحين يتحول الصراع الإجتماعي والسياسي من مجال الواقع إلى مجال النصوص، يتحول العقل إلى تابع للنص، وتتحدد كل مهمته في استثمار النص لتبرير الواقع إيديولوجياً، وينتهي ذلك إلى تأبيد هذا الواقع من جانب مفكّري السلطة والمعارضة على السواء، طالما تحول الصراع إلى جدل ديني حول تأويل النصوص”، على ما يقول نصر حامد أبو زيد. وعندما يتراجع دور العقل في قراءة النص الديني، يتحول الماضي إلى مصدر للسلطة فيمسك بتلابيب الحاضر ويقوده، على غرار ما تقدمه التيارت الإسلامية اليوم، سواء تلك ذات الوجهة الأصولية الإرهابية التي تضع النص الديني موضع التطبيق لدى استخدامها العنف، أو الداعية إلى عودة الخلافة الإسلامية والدولة الدينية وفرضها على المجتمعات العربية والإسلامية.

هل تقدم المجتمعات العربية والإسلامية مؤشرات لإصلاح ديني يعيد الدين إلى موقعه الاساسي، ويمنع استخدامه في الصراع على السلطة؟ قد يكون هذا سؤال الأسئلة في عالمنا العربي. لا شك في أنّ أحد المداخل الأساسية في هذا الإصلاح ينطلق من قراءة النص الديني مجدداً، وإعمال مبضع النقد التاريخي في مضمون النص والتراث الديني والفكر المتولد منه. لا تنفصل هذه المهمة، التي لا تزال من غير المسموح بها حتى اليوم، عن مجمل التطور الفكري والسياسي والإجتماعي والإقتصادي والعلمي للمجتمعات العربية. بل تبدو هذه المهمة في صلب الطموح إلى تجديد مشروع نهضوي في العالم العربي.

السابق
الكتائب: على ذوي العسكريين مؤازرة السلطة في معركتها الصعبة
التالي
دور الدولة العلمانية في التأسيس للإسلام السياسي المتطرف