«السلسلة»… أرقام وحقائق

منذ ثلاث سنوات أعلنت الحكومة السابقة ان “السلسلة أقرّت وتمويلها مؤمن بنسبة 120 %”، واعترفت ان “غلاء المعيشة والأسعار ارتفعت بنسبة 121 % منذ آخر زيادة نالها القطاع العام”، وأضافت أنها “ستحيلها في أقرب فرصة الى مجلس النواب ليتم اقرارها”. وهذه التصريحات نشرت وقتذاك في كل وسائل الاعلام.

سُميت “سلسلة الرتب والرواتب” وهذا يعني رواتب متكافئة للرتب المتكافئة. فهل يجوز أن يبقى راتب مدير عام التربية والتعليم العالي معادلاً نصف راتب الاستاذ الجامعي (المبتدئ)، أو راتب السفير والمحافظ وغيرهما من الفئة الأولى معادلاً نصف راتب القاضي (المبتدئ). والقضاة والأساتذة الجامعيون يستحقون عن جدارة رواتبهم الجديدة، ولكن “من ساواك بنفسه ما ظلمك”. واذا كان الفرق كذلك مع المبتدئين في الوظيفة في الملاكين المذكورين، فإن الراتب التقاعدي لسفير أو مدير عام أو محافظ يقل عن ثلث تقاعد القاضي. ان الموظفين المذكورين هم فئة أولى يعادلهم في الرتبة، فقط القضاة الأربعة الكبار (الذين يعينون وينقلون، مثل الفئة الأولى، بموافقة ثلثي مجلس الوزراء). واذا حسبنا الفرق الحالي في الرواتب على امتداد سنوات الخدمة في الوظيفة، يتبين مقدار الغبن والظلم. والخوف من تعاظم المخصصات والتعويضات للديبلوماسيين في الخارج (وليس في الادارة المركزية) يمكن حله بخفض معدلي الاغتراب والتمثيل عند إقرار الرواتب الجديدة.
وهل يجوز أن يبقى الفارق بين الأستاذين الجامعي والثانوي 52 درجة، أو أن يكون راتب رؤساء الدوائر، العصب الرئيسي في الادارة، مرة ونصف مرة راتب ناطور بناية، أو أن تكون رواتب الفئتين الرابعة والخامسة أقل من أجرة ناطور في بناية عادية أو راتب خادمة فيليبينية (مع الاحترام لهؤلاء العاملين)؟
المتقاعدون، لأي فئة انتموا، أفنوا عمرهم في خدمة الدولة، والغلاء في السلع والخدمات يسري عليهم مثل سائر الموظفين. وعدم نيلهم الزيادة نفسها ظلم سيدفعهم الى تفضيل قبض تعويض نهاية الخدمة، فهل تستطيع “الدولة” الدفع للآلاف منهم؟ واذا كان الجواب نعم (وهذا مستبعد) فهي تستطيع اذن تحمل نفقات الزيادة لهم.
منذ بدأ الحديث عن “السلسلة” ارتفعت الأسعار وكلفة الخدمات (المهنية والحرفية) بنسبة لا تقل عن 40% (بالاضافة الى نسبة 121%التي اعترفت بها الحكومة السابقة قبل ثلاث سنوات). وارتفاع الأسعار استفاد منه “الحيتان” الاحتكاريون وتجار الجملة وأصحاب المهن (الذين لا يدفعون ضرائب)، وليس البائع أو التاجر الصغير. والرفع “الكيفي” للأقساط المدرسية يتجاوز المعايير الأخلاقية والتربوية (وطبعاً القانونية)، عندما تفرض المدارس “المجانية” و”شبه المجانية” (وهي تقبض من الدولة أيضاً)، رفع الأقساط بنسبة الزيادة على الرواتب نفسها (وأحياناً بدون وجود زيادة). مع أنه (حسابياً) اذا حصلت زيادة 100% على الرواتب، مثلاً، فيجب أن لا تتعدى زيادة الأقساط نسبة 4% (على معدل استاذ لكل 25 تلميذاً).
الأزمة المعيشية أدت الى تلاشي القدرة الشرائية والكساد، وإقرار “السلسلة” يقضي على جمود السوق ويزيد نسبة النمو (حسب قول الخبير ايلي يشوعي). ومن المسلّم به علمياً أن نسبة النمو تقاس بحركة الدورة الاقتصادية والقدرة الشرائية عند المواطنين. أما الثروات الشخصية فلا تعتبر في الناتج القومي (لأنها ملك أفراد)، ولا تأثير ايجابياً لها في النمو (مهما كانت كبيرة)، بل أحيانا العكس اذا كانت ريعية وغير منتجة.. وهذه حالنا.
الولايات المتحدة، بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، ضخّت مئات المليارات من الدولارات لمحاربة الكساد وتنشيط الدورة الاقتصادية من خلال تعزيز القدرة الشرائية، رغم أنها أكبر دولة مدينة في العالم بل في التاريخ.
هل إبقاء ستين مليار دولار في المصرف المركزي (سيولة مجمدة) سيحل المشكلة؟ ان ضخ 2,5% فقط من هذه المبالغ يفيض عن كلفة “السلسلة” ويحرّك السوق. لقد ضخ المصرف المركزي، منذ أشهر قليلة، سيولة بقيمة 2200 مليون ل.ل. كقروض للمصارف، لفائدة واحد في المئة، “لتشجيعها على تسليف المواطنين”!.. وهل هي بحاجة لتشجيع؟ فالتسليف يكاد يكون نشاطها وهدفها الوحيد لأنه يحقق لها ربحاً سريعاً ومضموناً وبفوائد باهظة (اقتصاد ريعي غير منتج وطفيلي يقتات على استغلال الفقراء). ولا عجب اذا ارتفعت قيمة الأموال الخاصة للمصارف من 140 مليون دولار (أواخر 1992) الى 14800 مليون دولار نهاية العام الماضي.
مجموع الودائع المصرفية في لبنان حوالى 140 مليار دولار، يملك 85% منها حوالى 6500 شخص فقط، والباقي 15% فقط يملكه حوالى ثلاثة ملايين شخص (لبنانيين ومقيمين).
أرباح الاحتكارات التجارية قدّرها البنك الدولي عام 2006 بنحو 16% من الناتج الاجمالي اللبناني (حوالى 7500 مليون دولار).
تكبير حجر تمويل “السلسلة” والتحذير من “حالة يونانية” ظهر عدم صدقيته بعد تقرير “لجنة كنعان”، وتخويف صغار المودعين من زيادة نقطتين في الضريبة على الفائدة “أكذوبة أخرى”. فزيادة النقطتين تزيد الضريبة ستة دولارات على من يملك عشرة آلاف دولار، وستين دولاراً فقط على من يملك مئة ألف دولار، لكنها تصبح ستمئة دولار على صاحب المليون دولار وستمئة ألف دولار على أصحاب المليارات والطائرات الخاصة. الولايات المتحدة، قلعة وحامية النظام الرأسمالي، تفرض ضريبة تصاعدية على الودائع (الجَمَل بكامله) وليس فقط على الفائدة (أذن الجَمَل)، وعندنا يعارضون ضريبة صغيرة وموحدة (الغني والفقير) على “أذن الجَمَل”!. ان رفع الضريبة على الفوائد المصرفية من أبرز مقررات مؤتمر باريس -3-” لدعم لبنان. وقبرص رفعت الضريبة الى 10% وخففت من أزمتها.
من حق الهيئات المصرفية، رغم أرباحها الخيالية، أن لا توافق على تحميلها وحدها “الغرم”، بينما غيرها يشاركها بامتياز في “الغنم”، ولا يسمح بالمس باعتداءاته على الأملاك العامة وتملكه لها، واستثماره عشرات الآلاف من الأمتار المربعة، لمدة طويلة، ببضعة دريهات.
يصرّ البعض على أن تكون الضريبة موحّدة على الجميع (من يشتري الخيار ومن يتمتع بالكافيار والسيكار)، وفي الدول المتحضرة تتصاعد الضريبة على السلع كلما اقتربت من صفة الكماليات. ورفع الضريبة على السلع الضرورية نقطة أو نقطتين لن يؤثر كثيراً على الفقراء لأن استهلاكهم محدود، لكن رفعها على الكماليات الى 16 و18% يؤمن دخلاً ملحوظاً للخزينة. علماً ان الضريبة على القيمة المضافة في لبنان هي الأدنى في العالم.
مكافحة الهدر والفساد ونهب المال العام، والتهرب من الضرائب في المرفأ والمطار وبقية المعابر، وفي المؤسسات والشركات، تؤمن مبالغ هائلة للخزينة. وإلغاء “المجالس” و”الهيئات” و”الصناديق”… وتعزيز المؤسسات الرقابية يخفف الكثير من نفقات “النهب” و”الهدر” على الدولة. وكذلك خصخصة المرافق الخدمية التي تكلف الخزينة أعباء سنوية تفوق كلفة “السلسلة”، مثل مصلحة الكهرباء (مع أنها يجب أن تكون قطاعاً مربحا). والتمسك ببقائها يعني استمرار الهدر و”التنفيعات” واستنزاف مالية الخزينة.
لماذا تتكبد “الدولة” نفقات الجسور والأنفاق والطرقات، في الوقت الذي يمكن فيه تلزيمها الى شركات بطريقة B.O.T، حيث لا كلفة مرهقة ولا سمسرات ولا هدر أو غش في التنفيذ.
مكننة “صناديق القبض” في المؤسسات والمتاجر (حتى الصغيرة) وربطها بكومبيوتر مركزي في وزارة المال، والزامية إعطاء الفاتورة للزبون وتوعية المواطنين للاصرار على طلبها، هذا معمول به في الدول المتحضرة (بل معمول به في اسطنبول مثلاً منذ بداية التسعينات، ويطبق حتى على الكشك الذي يبيع السجائر والعلكة). وهذا يقضي على التهرب من الضريبة ويمنع غش الزبائن.
لا نريد طرد “التجار” من الهيكل، كما فعل المسيح. ولكن هل سمعتم بقول النبي: “ما ذهب الفقر الى مكان الا وقال له الكفر خذني معك”، وبقول الامام علي: “الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن”. ربما لذلك نخسر أدمغتنا وأبناءنا، ويهاجر شبابنا فيموت بعضهم غرقاً في المحيط أو احتراقاً في صحارى افريقيا.

السابق
Dronie منافس جديد لصور Selfie: من يفوز؟
التالي
بالفيديو: زياد الرحباني يتهم حزب الله بالتشويش لإفشال حفلته الموسيقية