مقاومات ما بعد التحرير

الملتزمون بالقوات اللبنانية أو المتحدرون منها ومن التعصب ، يستحضرون مواجهتهم مع سوريا ويتباهون بالمقاومة اللبنانية، كلما انفتح أمامهم موضوع المقاومة. الصورة أكثر تعقيداً على جبهة اليسار، لأنه لم يعد هناك يسار يمكن الالتزام به ، بل متحدرون فحسب، بل لأن اليسار الذي أسس المقاومة مات ، ولم يتأسس بعد يسار جديد بديل عنه . مع ذلك يدخل أنصار المقاومتين ، عند حلول شهر أيلول ، في مباراة ، بل في تناغم غير معلن، لتوظيفهما في مصلحة الانقسام الوطني. صحيح أن الطرفين أجريا نقداً صادقاً على السنوات الخمس عشرة من تجربة الحرب الأهلية، لكن النقد ظل يشكو من إحدى ثغرتين كبيرتين أو منهما معاً : الأولى بقاؤه محصورا في أوساط قيادية ضيقة ، وعصيا على الدخول إلى وعي المحازبين ، والثانية أن النقد لم يستكمل بل جاء مبتورا ليلبي حاجة سياسية تكتيكية أملتها ظروف الطائف وزوال خطوط التماس القديمة بين “الشرقية والغربية”، أو بين ” اليمين المسيحي واليسار المسلم” ، أو بين الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية ، الخ.. ومع زوال تلك الظروف تنصلت القيادة الرسمية للحزب الشيوعي ، مثلما تنصلت القواعد الحزبية القواتية من هذا النقد الذي تحول إلى كلام نخبوي يؤمن به ويعتمده عدد محصور ممن ترسخ في وعيهم النقدي أن مفتاح حل الأزمة اللبنانية هو قرار لا لبس فيه بالخروج من دوامة الحرب الأهلية. للأسف ، قرار نهاية الحرب لم تتخذه قيادة القوات اللبنانية ولا قيادة الحزب الشيوعي ، اللتين وافقتا على تنفيذه ، تماما مثلما سبق أن استدرجتا إلى تنفيذ قرار البداية. وإذا كان صحيحا أن ” وقع السهام ونزعهن أليم ” بحسب الشاعر ، فإن نزع لغة الحرب من عقول المتحاربين أكثر إيلاما من زرعها في نفوسهم. وهنا تكمن الثغرة الثانية . ذلك أن النفوس كانت قد أعدت على امتداد سنوات طويلة ، ضد “اليسار الدولي والفلسطينيين والغريب” في عملية التعبئة الكتائبية ، وضد “أنظمة الاستغلال الرجعية ، عميلة الاستعمار ، المتخاذلة أمام الصهيونية ” في أدبيات اليسار. بعد أن رسمت خطوط التماس ، صارت هذه التعبئة، على جانبيها، كالحفر والتنزيل في العقول والنفوس. فوارق عديدة بين المقاومتين منها ، وهذا لصالح “جمول” ، أن إسرائيل عدو واضح واحتلالها واقع قائم ، في حين أن الجيش السوري دخل بطلب من الجبهة اللبنانية ، ، أي القيادة السياسية للقوات أو المؤسسة للقوات اللبنانية، قد شاركها التجمع الاسلامي في طلب استدراجه لمساعدتهما في مواجهة الفلسطينيين و” اليسار الدولي” . ومنها ،وهذا لغير صالح “جمول” أن القوات ندمت على تعاملها مع العدو( ولا تهم درجة الندم، بل يكفي أن عشرات العملاء مع العدو الاسرائيلي لم يكن منهم أي واحد من القوات اللبنانية) فيما تورط الحزب الشيوعي في الدفاع عن التدخل السوري ، وأمعن في “حب قاتله” ومضى بعيدا في هذه المحبة، من غير أن ينتبه أن ما يقوم به يشبه العمالة،أو يتخطاها راضيا مرضيا في أن يكون أداة رخيصة من أدواتها، مستخدما “جمول”، وهي مأثرته ورصيده الوحيد الناصع في الحرب الأهلية التي لا شيء ناصع فيها، خلافا لما قامت من أجله أصلا، أي مقاومة الاحتلال الذي اندحر مذلولا، مفتعلا مواجهات مع خصوم الداخل ، حين يطلب النظام السوري منه ذلك. ليس استحضار جمول مفيدا لها، بعد مرور خمسة عشر عاما على التحرير، وأكثر من خمسة وعشرين عاما على إيقاف أعمالها البطولية قسرا، بل هو مؤذ لتاريخها الذي كان يمكن أن يشكل درسا لجميع القوى، وخصوصا ذات الهويات الطائفية الواضحة ، لأن جمول كانت القوة الوحيدة العابرة للمناطق والطوائف ، وهي النموذج الوحيد الذي يمكن أن يبنى عليه لإعادة بناء الوطن موحدا سيدا حرا مستقلا. القوات التي لم يحصل إجماع على مقاومتها، تجمد خلال احتفالاتها بالتأسيس وبالمؤسس، الخلاصات التي توصلت إليها القيادة في عملية النقد الذاتي وتستحضر قواعدها كل عدة التعصب الطائفي ضد الغريب، فيما أبطال المقاومة الوطنية الذين جمعوا الشعب اللبناني حولهم، يتجاهلون المصالحة مع القوات ، ويجعلون من الاحتفال بالمؤسسة ( جمول) مناسبة لإدانة المؤسس. أمر لا يعلم تأويله إلا اليسار الممانع .

السابق
توقيف أشخاص بجرم الدعارة في عين المريسة
التالي
نمر يمزق أشلاء شاب ثمل