المبادرة الفرنسية تسابق الفراغ النيابي

على رغم الترشيحات للانتخابات النيابية التي شاركت فيها كلّ القوى السياسية اللبنانية، هناك انطباعٌ عام بأنّ هذه الخطوة لم تكن أكثر من «فولكلور» أو مسرحيةٍ رديئةِ الإخراج، وكأنّ الانتخابات لن تحصل في نهاية المطاف، وأنّ هناك تفاهماً في الكواليس على حصول تمديدٍ ثانٍ للمجلس النيابي، ولو أنّ المدة لم تُحسم بعد، في ظلّ إصرار بعض القوى السياسية، وفي طليعتها رئيس المجلس النيابي نبيه برّي على التمديد لسنتين وسبعة اشهر، وهي المدّة التي تجعل من المدّة الممدّدة ولايةً كاملة.

الإنتخابات النيابية اللبنانيةفتفت لـ«الجمهورية»: نحن لا نكذب على الناسلقاءات قيادية في الأيام المقبلةالجراح: لا مانع من تمديد تقني لمجلس النواب حتى ينتج قانون انتخابي جديدالمزيدهذا الكلام وعلى رغم صحته، لا يعكس الصورة الحقيقية لما هو حاصل، أو بكلام اكثرَ دقة هو يعكس جزءاً من الصورة لا الصورة كلها. ففي الكواليس حسابات كثيرة وخيوط متشابكة، ويبقى الاستحقاق الرئاسي هدفاً رئيساً مخفياً وسط كل هذه الجلبة.

وإذا كان من الطبيعي أن يكون الرئيس برّي هو محور الحركة في هذا الشأن، إلّا أنّ الصحيح اكثر هو أنّ رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط هو الشريك الكامل لبرّي في حركته ومشروعه وفي صوغ «استراتيجية» المعركة.

في اختصار، «يدوزن» الثنائي برّي – جنبلاط حركتهما للوصول الى هدف إنجاز الاستحقاق الرئاسي انطلاقاً من «حشرة» التمديد للمجلس النيابي والإفادة منها كعاملِ ضغطٍ هائل.

وتقول الاوساط المطلعة إنّ فرنسا ليست بعيدة من حركة برّي – جنبلاط وتتحضَّر لبدء تحرّكها في لبنان بالتنسيق من خلف الكواليس مع الفاتيكان، واستناداً الى الازمة التي ستتصاعد حيال التمديد للمجلس النيابي. لكنَّ حِسابات باريس ومعها الفاتيكان لا تتوقف فقط عند المعطيات اللبنانية الداخلية، لا بل ترتبط بإعصار «داعش» الذي يضرب المنطقة ويُهدّد أمن المجتمع الاوروبي خصوصاً.

فباريس التي حظيَت بدور في الشرق الاوسط بتكليف من واشنطن في إطار الائتلاف الدولي الحاصل، تستعدّ لإنجاز مهمة تتعلّق بالسعي لضمّ ايران الى الائتلاف.

وقد تطرّق الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند خلال زيارته الأخيرة الى العراق الى هذه النقطة، ذلك أنّ فرنسا كانت قد توّلت منذ اقل من عام مهمة مماثلة، ولو كانت محدودة، وتركّزت أساساً على تدوير بعض الزوايا المتعلّقة بالملف اللبناني بين طهران والرياض. يومها نجَحت باريس في تأمين ولادة الحكومة اللبنانية ونزع الألغام أمام عودة الرئيس سعد الحريري ولكنّها فشلت في تسويق التمديد للرئيس ميشال سليمان.

لكن عندما تدخّلت مجدّداً منذ بضعة أشهر لتأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية، عادت خاليةَ الوفاض مع الجواب الايراني الذي أحالها الى «حزب الله»، والذي احال بدوره الجواب إلى رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون.

لكنّ الظروف اليوم مختلفة. فالمفاوضات والتسويات تحصل تحت لهيب «داعش» وهو لهيب يلفح الجميع: إيران كما السعودية كما أوروبا نفسها.
والواضح أنّ ايران كما روسيا تسعيان إلى الإضاءة على زوايا عدة غامضة في مرحلة ما بعد الضربة المنتظرة: الى متى ستبقى واشنطن في سماء المنطقة؟ مَن سيملأ فراغ «داعش»؟ ماذا سيحصل للمصالح الايرانية في العراق؟ والأهم ما هي الخطط المستقبلية الموضوعة لسوريا ولبنان، وبطبيعة الحال، لـ»حزب الله»؟

فعدم التواصل المباشر ما بين العواصم الغربية ودمشق والاكتفاء بحصول ذلك عبر طرف ثالث، ولو كان الحكومة العراقية، يُقلق إيران التي تتخوَّف من سيناريو عراقي جديد.

فصحيحٌ أنّ الاقتناع في واشنطن رسا على الحفاظ على تركيبة النظام العسكري والامني، لكنّ مؤتمرات جنيف السورية تستعيد زخمها، ما قد يفضي الى الاكتفاء باستبدال الرئيس بشار الاسد بآخر من قلب النظام، الأمر الذي يُعارضه النظام السوري وطهران وموسكو على السواء، وهذا تماماً ما حصل مع نوري المالكي في بغداد.

وتراهن إيران ومعها روسيا على استحالة شنّ الائتلاف الدولي حملة عسكرية ناجحة من دون التعاون معهما. وكما يراهن الغرب على القلق الايراني والروسي من «داعش»، تراهن موسكو وطهران على الخوف الاوروبي من هذا التنظيم الذي بات موجوداً من خلال بعض الجاليات الاسلامية في اوروبا وفق ما أظهرت المعارك في سوريا.

تُدرك فرنسا أنّ «داعش» يستخدم أسلوب الترهيب والترغيب. الترهيب من خلال «فظائع» قطع الرؤوس، والترغيب من خلال نشر إيديولوجية دينية جاذبة للشباب المسلم. نجحت «دعاية» داعش في فعل فعلها: ففي السعودية هناك إعادة تنظيم شاملة للتركيبتين الامنية والعسكرية، و»نفضة» على مستوى مجموعات حماية رجال الحكم.

وفي الاردن حملة مماثلة وعودة للاستعانة برجال القبائل والشركس من الجيل الثالث. وفي اوروبا كما في الولايات المتحدة الاميركية ورشة أمنية كبرى وإحصاء ومراقبة للجاليات الاسلامية فرداً فرداً. أما داخل الادارة الفرنسية فجدل واسع في شأن ضرورة ضمّ إيران وروسيا الى الائتلاف، ولو أدّى ذلك الى تواصل مباشر مع النظام السوري.

صحيحٌ أنّ الحكومة الفرنسية كانت قد جمَّدت زيارة المسؤول السابق للاستخبارات برنارد سكارسيني التي كانت مقرّرة هذا الشهر الى دمشق، إلّا أنّ كثيراً من رجال الادارة يتحدث عن خطورة الشروع في المشروع العسكري الكبير من دون التفاهم مع ايران وروسيا.

وتتحضَّر باريس لضمّ الملف اللبناني الى المحادثات التي ستجريها مع طهران، أي تأمين موافقة إيرانية على تسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية ليُشرف على تسوية تشمل تركيبة الحكومة المقبلة، التعيينات الأمنيّة الكبرى، قانون جديد للانتخابات وإعطاء ضمانة لـ»حزب الله».

وتُدرك باريس كما طهران المخاطر الامنية الكبرى التي تتهدَّد لبنان، ونيّة «داعش» إنجاز خروق عسكرية عبر البقاع او عكار والنفاذ الى الشاطئ والاشتباك المباشر مع «حزب الله» وإعلان مساحة من لبنان جزءاً من «الدولة الاسلامية»، وهو ما يشكل عامل ضغط مساعد لإنجاح التحرّك الفرنسي.

أضف الى ذلك أنّ أزمة الانتخابات النيابية التي ينوي الثنائي برّي- جنبلاط لعب ورقتها حتى النهاية، قد تُشكّل عامل ضغط لبنانياً داخلياً لتليين المواقف ومواكبة الحركة الفرنسية.

لكنّ الواقعية تقضي بالاعتراف أيضاً بوجود مخاطر قد تطرأ ومنها الوضع الامني المخيف، إضافة الى نجاح المتطرفين باغتيال شخصية كبرى، والأهمّ احتمال الوصول الى 19 تشرين الثاني المقبل بلا حصول تسوية، عندها ترتفع احتمالات الفراغ على مستوى المجلس النيابي، ومعه تدخل البلاد مرحلة الانهيار الشامل.

http://www.aljoumhouria.com/news/index/169916

السابق
الطريق.. إلى الحرب الأهلية
التالي
اسرائيل: لسنا ضمن أهداف ’داعش’