سيرة حزبية: روايتان تقرران مصير سامية

«روايتان»، تقول سامية، «الأولى واقعية والأخرى روائية، ترسمان طريقي نحو المنظمة». لا تبخل سامية أبداً في سرد قصتها مع جيرار، روايتها الأولى. مدرستها في الأشرفية، المعروفة بـ»الليسيه الفرنسية»، تقع بالقرب من منزل صديقتها في الصف، مارسيلا. في أوقات الفراغ، تتسللان الى الخارج بالتواطؤ مع الحارس، إلى بيت مارسيلا، حيث تختليان للاستماع الى أغاني فرقة البيتلز، الجديدة على سامية، ثم تأخذان في نسج الأحلام… سعيدات، منطلقات، لا تسعهما الدنيا كلها، خصوصا هي، سامية. فهي تلمح جيرار من بعيد، شقيق مارسيلا، تعجبها نظراته الحالمة السمراء، ورموش عينيه الذابلتين. لكنه في صف البكالوريا-قسم ثاني، أكبر منها بعامين، لا يلتقيان ولا يجتمعان؛ هو مع رفاقه، معظمهم من الشباب الذين سوف يتخرجون في نهاية العام ويذهبون الى الجامعة، وهي مع مارسيلا والباقيات، قليلاً ما يختلطن بصبيان الصف أو الصفوف الاخرى. لذلك، بعدما رأته في الحلم يقترب منها حاملاً وردة حمراء، تصمّم أنها أغرمت به، وعليها أن تصادفه في منزله، يوماً ما. هو الآخر، جيرار لا يتأخر بالظهور؛ يصله إحساسها ونظراتها إليه، فيأخذ بالتردّد هو الآخر الى البيت في أوقات الفراغ، بعدما كان يمضي ساعاته مع الشباب بالتدرّب على كرة السلّة. يتخلى عن الرياضة، ويترقب اللقاء معها.

في البداية، لا تحصل أشياء كثيرة تتجاوز تبادل النظرات الحارقة، والتحدث عن موسيقى فرقة البيتلز، التي لا يحبها جيرار على الإطلاق. يسايرها أحيانا بمشاركتها متعة اندماجها بنغمات هذه الفرقة. ولكن بعد أغنيتين أو ثلاث، يضيق ذرعاً ويهمس لها بأن في غرفته يمكنها الاستماع الى موسيقى كلاسيكية روسية، تشايكوفسكي وكورساكوف. تعرفها، هذه الموسيقى، تسمعها منذ طفولتها في مدرسة الراهبات، وهي حضرت «سبارتاكوس» على مسرح بعلبك، للأول، تشايكوفسكي. وبما انها استمعت طوال طفولتها إلى أغاني داليدا، معبودة أمها، فهي تستطيع أن تقدر عاطفية العملاقين الروسيين. شيء ما يزيد من سحر هذه الموسيقى الآن، هو جيرار ونظراته الحالمة. تعلق على ما يسمعها إياه، تتوقف عند النغمات العاطفية الصاعدة، تطلب منه أن يعيد الإسطوانة من أولها لتسْكر بها ثانية.

لكن جيرار قارئ نهم أيضا؛ هو لم يدخل حزباً سياسياً معيناً، ولا شارك الفلسطينيين بشيء؛ هو فقط يحب الإنتاج الروسي من موسيقى وروايات، لأن صديق طفولته الكسندر تشيريمنكو، هو من الروس البيض الذين هربوا من روسيا إبان الثورة البلشفية، فتح له مكتبة أبيه وصار يعيره كتباً منذ ان بدأ شغفه بالقراءة؛ صحيح ان والد الكسندر روسي أبيض، ومعاد بالتالي للثورة البلشفية، ولكن مكتبته متنوعة، تضم كل الكتب الروسية، وكل الموسيقى الروسية، الكلاسيكية والفلكلورية. في يوم، وهما مختليان ببعضهما، يهمّان الى تبادل الغزل في غرفة جيرار، تلاحظ سامية كتاباً، على غلافه امرأة تحمل فوق ظهرها سلّة ضخمة، مربوطة على ظهرها بحبل، فيما قبضتاها ترتفعان إلى السماء، ولون الدماء الأحمر يحيط بها. تحمل الكتاب وتسأل جيرار عنه «ما هو هذا الكتاب؟». انه «الأم»، لماكسيم غوركي، «رواية مثيرة ومشوقة، مكتوبة بتمعّن وعفوية… رواية فنان عظيم!». تحب سامية غلاف الرواية، تحدس انفجاراتها الداخلية، تريد ان تستعيرها، أو تشتريها؛ تلك المرأة الوحيدة، ما قصتها؟ لماذا هي هكذا رازحة تحت وطأة كرامتها، ومنتفضة من أجلها في آن؟ طبعا جيرار ليس الآن في هذا الوارد. يريد ان يتابع جلسة الغزل. لكن سامية تريد القبل وكتاب تلك المرأة الوحيدة… وتنال الاثنين، تحمل الكتاب، تلفّه بذراعيها كأنه تلك الوردة الحمراء التي اهداها اياها في منامها؛ وتقول لنفسها أن أروع ما في هذا الكتاب انها سوف تقرأه كأنها تخاطب محبوبها من بعيد، فتتوارد أفكارهما.

هكذا يمكن القول ان سامية تتعرف الى بيلاجيا نيلوفنا، بطلة القصة، وتدخل في أحداثها وفي شخصياتها، لتخرج منها بتلك السوسة، التي لن تبارحها إلا بعد سنوات طويلة. بيلاجيا نيلوفنا، أو «الأم»، أمضت حياتها في إحدى الضواحي العمالية الروسية المكتظة، مع زوجها العنيف السكير، الذي كان يضربها ويحرمها من القروش القليلة، ولا يعتبر وجودها ولا حاجاتها ولا أحاسيسها… بعدما يموت باكراً متأثرا بكمية الكحول التي يبتلعها، يبقى لبيلاجيا نيلوفنا إبنها بافل ميخائيلوفيتش، العامل في المعمل نفسه الذي كان فيه أبيه، والمختلف عنه كلياً بطبائعه: هو لا يشرب الفودكا، ولا يتفوّه بكلمات نابية، ويغتسل بانتظام، يتكلم قليلاً، دائماً بصوت خافت؛ معه تشعر بيلاجيا نيلوفنا بطمأنينة جديدة، وإن كان لا يسرّها بكل شيء، ولا بطبيعة علاقته بهؤلاء الشباب الذين يأتون إليه ليلاً، كأنهم في الخفاء، يسلّمونه أوراقاً ويهمسون في أذنه كلاماً غير مفهوم. لا يدوم هذا الغموض كثيراً؛ فحشرية بيلاجيا نيلوفنا، وحيويتها وحبها الشديد لوحيدها، وربما أيضا ساعات الفراغ الطويلة التي تمضيها بانتظاره… كل هذا يدفعها الى التعرف شيئاً فشيئاً إلى عالم إبنها بافل ميخائيلوفيتش، العضو في «حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي»، والمناضل في سبيل تنظيم صفوف عمال كل مصانع روسيا، ومنها بلدته، لكي ينالوا كل حقوقهم، ويُرفع عنهم هذا الإستغلال الشنيع، الذي يجعلهم يعيشون مثل الآلات المنطفئة. بيلاجيا نيلوفنا التي نسيت القراءة منذ زواجها، التي لم تخرج من البيت إلا للتبضع في السوق، التي لم تختلط بالناس، ولم تعرف من روسيا إلا تلك الاشجار والثلوج والرياح العاتية…. بيلاجيا نيلوفنا، بعد خطوات مترددة، تحزم أمرها وتقرر، بعد دخول ابنها السجن، على إثر إحدى التظاهرات، أن تقوم بالأعمال السرية، بدلا من الرفاق الغائبين، فتحمل المناشير في قفّة تدّعي أن ليس فيها إلا حساء تبيعه للعمال الداخلين إلى باب المصنع، توزعها على رفاق تعرفهم بوجوههم أو إشاراتهم السرية. وأكثر من ذلك؛ تخرج من بلدتها إلى بلدات أخرى، موسّعة نشاطها مع القرى الفلاحية، عاملة مثل ضابط ارتباط بين الخلايا الحزب المختلفة، لينتهي بها المطاف إلى أن تصبح عضواً عاملاً غير رسمي في حزب ابنها، الذي صار في هذه الاثناء قائدا شيوعيا صلباً، محبوباً، معروفاً بصفته إبنها. بيلاجيا نيلوفنا، تلك البطلة التي انقذت عمالا وفلاحين، وعادت فتعلمت القراءة، وبات لها جمهور من المحبين بين الرفاق. ليس وحده هذا التحول الجذري في حياة بيلاجيا نيلوفنا هو الذي يستوقف الرفيقة سامية؛ ليس أن تخرج امرأة من صفوف الشعب الجاهل البائس المتعب، كل هذه الطاقة الثورية. بل ما يهزّها ويجعلها تحلم، هن البطلات الثانويات من الرواية، صاحبات المسار المعاكس، اللواتي خرجن من صفوف طبقتهم الارستقراطية صاحبة الامتيازات، لينضممن الى صفوف البروليتاريا المناضلة في سبيل حقوقها. ناتاشا فاسيليفنا، ساشا، صوفيا، ساشنكا، جميعهن رفيقات درب في حزب يحارب رأسماليين واقطاعيين، هم أهلهن، هم أبناء الطبقة التي نشأن فيها.

وحدها ناتاشا فاسيليفنا من بين الرفيقات الثلاث تحب بافل ميخائيلوفيتش؛ أمه تلاحظ ذلك، وتسأل نفسها، مع أنها في سرور شديد: كيف لابنة رجل واسع الثروة، مساهم في شركة الحديد، يملك عدة أبنية، ان تتسبّب لنفسها بالطرد من البيت، بعدما يعلم والدها بنشاطها مع الحزب العمالي المحظور. تسألها بيلاجيا نيلوفنا، في البداية، «كيف تتركين أهلك؟ كيف لا تشتاقين إليهم…؟». فتجيب ناتاشا فاسيليفنا: «تركتُ أهلي؟ هذا لا يعني شيئا. والدي إنسان قاسٍ».

شخصية ناتاشا فاسيليفنا، قبل بيلاجيا نيلوفنا، «الأم»، تُغرِق سامية في شرود طويل. نقاط الشبه بينها وبين بطلتها كثيرة. تشعر وكأن هذا الشيء الذي كان ينقصها وجدته في ناتاشا فاسيليفنا؛ ابنة ثري، ترى في والدها «خنزيراً كبيراً»، تكره حياتها مع أهلها، تتخلى عن هناء هذه الحياة، تحلم بالابتعاد عنها، بخلق عالمها… فتجول السهوب والفيفاء محمّلة بالمناشير والأوامر الحزبية، مكابدة الخطر والجوع والبرد، لتتحول الى عاملة ومناضلة عمالية. صورة ناتاشا فاسيليفنا العملاقة تتربع على عرش مخيلة سامية. كل قراءتها اللاحقة تدعمها، تغذيها بالكلمة التي تحفظها سامية عن ظهر قلب: «ينبغي على الثوري أن يضاعف طاقته باستمرار». انا ابنة ثري سوف أتحول يوما ما إلى مناضلة عاملة، تقول سامية لنفسها، وكأنها تصيغ بذلك وثيقة اعتناقها من أهلها. ولكي تصل إلى هنا، عليها أن تدخل في التجربة العمالية التي تطلقها الآن المنظمة، في تمحورها العمالي هذا، وتأخذه من بدايته، وتتدرّج في سلّمه.

السابق
سيدي هاني فحص أنظر إليك وتغشى قلبي صلاة.. عد إلينا
التالي
وهاب: أي محاولة لضرب الجيش السوري تحت ستار محاربة الإرهاب ستشعل كل المنطقة