أيزيديات ’سبايا’ و هدايا لقادة ’داعش’

في “الاندبندنت” البريطانية وسواها من الصحف الغربية اليوم، وفي “الواشنطن بوست” الأميركية أمس، خرجت القصة نفسها بالعنوان إياه. “أنا فتاة ايزيدية عمري 14 سنة قُدمت هدية إلى قائد في “داعش”. وإليكم كيف فررت”. سقط منطق المنافسة والسبق الصحافي أمام القضية الإنسانية، قصة جديدة-قديمة عن جحيم الأقليات في قبضة إرهاب تنظيم “الدولة الإسلامية”.

وبعد رواية أديبة شاكر التي نشرتها مطلع أيلول وكالة “رويترز”، ها نحن أمام فتاة أخرى اختبرت باكراً قسوة الحياة. وفي قصتيهما الكثير من التشابه، كأنهما الشخص نفسه. فطريقة الخطف واحدة، وأسلوب التعامل. وكان ينتظرهما المصير ذاته، أن تكونا لعبة جنسية لرجل طاعن في السن لولا بعض الحظ الذي أتاح لهما الفرار. بين أديبة وفتاتنا هذه اختلفت التواريخ وأسماء القرى وتقاربت المأساة.

قصة نارين

قصتها حملها إلى العالم الصحافي الكردي محمد صالح المقيم في أربيل. اختار لها اسم “نارين” المستعار لحمايتها وأسرتها، فصحيح أنها صارت آمنة في كردستان العراق، لكن مصير الكثير من معارفها لا يزال مجهولاً. ويوضح صالح أن دوره اقتصر على الترجمة من الكردية والتعاون مع إدارة تحرير “الواشنطن بوست” لصياغة موضوع مؤثر كُتب بلسان الراوية، لنجد أنفسنا أمام قصة شجاعة وإيمان ورباطة جأش، وأمام إنسانية أشخاص حرصت نارين على الإيضاح أنهم “سُنة” أو “مسلمون” عرضوا حياتهم للخطر لإيصالها إلى بر الأمان.

وفي صباح الثالث من آب، بلغ مسلحو “الدولة الإسلامية” أطراف بلدة تل عزير في محافظة نينوى العراقية، فغادرت نارين وأفراد أسرتها، لم يأخذوا إلا ملابسهم وبعض المقتنيات. وبعد ساعة من المسير شمالاً، توقفوا للارتواء من بئر. كانوا يتجهون إلى جبال سنجار، حيث “آلاف الايزيدين مثلنا، لأننا سمعنا الكثير من القصص عن وحشية (مقاتلي) “الدولة الإسلامية” وما قاموا به بغير المسلمين… فجأة وجدنا أنفسنا محاصرين بمسلحين يرتدون بزات “الدولة الإسلامية”. صرخ الناس في رعب وخفنا على أرواحنا. لم يسبق لي الإحساس بعجز مماثل”.

ووبعد ذلك قُسم الأسرى بحسب الجنس والعمر، وسرق المسلحون أموال الطاعنين في السن وتركوهم، بعد تجريدهم من كل شيء. وُضعت النساء والفتيات في شاحنة، وسُرعان ما قُتل الشباب، وبينهم شقيق نارين وعمره 19 سنة.

وبعد الظهر وصلت الأسيرات إلى مدرسة مهجورة في قرية غرب الموصل، هناك وجدن نساء وفتيات فَقَدن حريتهن قبلهن. دخل مقاتلون، وبعضهم من سن نارين، وعرضوا على المحتجزات اعتناق الإسلام، لكنهن رفضن. وبعد أيام نُقلن إلى مكان أوسع في الموصل فيه المزيد من الايزيديات، واحتُجزن هناك 20 يوماً. وطوال تلك الفترة، استمرت الضغوط عليهن للتحول إلى الإسلام، وكان الرد نفسه، “لن نتخلى عن ديانتنا”.

وفي مرحلة لاحقة فُصلت الفتيات عن المتزوجات، و”قُدَمت وصديقتي شايما هدية إلى مقاتلين في “الدولة الإسلامية” من الجنوب. شايما مُنحت لأبي حسين، وهو رجل دين، وأنا اختاروني لرجل يتجاوز الخمسين من العمر، وزنه زائد ولحيته كثة، ويبدو أنه صاحب منصب مهم وكنيته أبو أحمد. اقتادونا إلى منزل في الفلوجة كأنه قصر. كرر أبو أحمد دعوتي إلى الإسلام. حاول اغتصابي مرات عدة، لكنني لم أمكنه من لمسي. فصار يضربني يومياً، يعاقبني ويركلني. واقتصر طعامي على وجبة واحدة. فكرتُ وشايما في الانتحار”.

وعلى رغم قسوة المعاملة، مُنحت الفتاتان هاتفين للاطمئنان على أفراد أسرتيهما. هناك في سنجار، علِق الأقارب في حصار “الدولة الإسلامية”. وبعد خمسة أيام نجح مقاتلو البشمركة الأكراد في تهريبهم إلى سوريا، ومنها إلى شمال العراق. قيل للفتاتين إنهما ستنجوان لو استسلم ذووهما وقدِموا إلى الموصل واعتنقوا الإسلام. طبعاً لم يصدق أحد تلك الوعود، فبقيت الصديقتان في الفلوجة.

مغامرة الفرار

ومرة غادر أبو أحمد المكان في مهمة ميدانية، وكلف أبا حسين مراقبة الفتاتين. لكنه تركهما وخرج للصلاة، فاتصلت شايما بمحمود، وهو شاب سني وصديق لقريبها ويقيم في الفلوجة. كان مستعداً للمساعدة، لكن كان عليهما قبلاً إيجاد وسيلة للخروج من المنزل، فاستخدمتا سكاكين المطبخ لكسر أقفال الأبواب.

وبعد ربع ساعة بلغتا وسط المدينة. بدتا امرأتين مثل سائر النساء إذ لم يكن ممكناً معرفة هويتيهما تحت ستار عباءتيهما. هناك لاقاهما محمود واقتادهما إلى منزله. وصباحاً استأجر لهما سيارة أجرة لتقلها في رحلة ساعتين إلى بغداد. كان السائق خائفاً لكنه شعر بواجب مساعدة الفتاتين اللتين ارتديتا النقاب للتخفي، وزودهما محمود ببطاقات طلابية مزوّرة في حال المرور بحواجز تفتيش. رافقهما الشاب في تلك الرحلة، واضطر عند أحد الحواجز لرشوة مسلحين ليكملوا المسير.

أخيراً، بلغتا بغداد، صارتا في عهدة أصدقاء إيزيدين وأكراد مسلمين. مرة جديدة استخدمتا هويات مزوّرة للسفر جواً إلى أربيل. هناك أمضيتا ليلة في منزل النائبة فيان دخيل، وانتقلتا شمالاً نحو شيخان، مسقط بابا شيخ، الزعيم الروحي للايزيديين. دامت معاناة نارين شهراً، وانتهت مبللة بدموع أبيها وأمها وفي أحضانهما. دموع الفرح على استعادة الابنة، والحزن على شقيقها المقتول، والقلق على زوجته المحتجزة في الموصل. بعمر الرابعة عشرة، اختبرت نارين قسوة البشر. تحاصرها الكوابيس ليلاً ونهاراً. وتختم روايتها بالقول :”أريد مغادرة هذه البلاد، كلها، لا مكان لي فيها بعد الآن. أريد الذهاب إلى مكان يمكنني أن أبدأ فيه من جديد”.

قصة مايات

ونجت نارين، وإن حملت ندوباً نفسية يصعبُ اندمالها. لكن مايات التي تكبرها بثلاث سنين لا تزال محتجزة لدى “الدولة الإسلامية”. مثل نارين، احتُلت قريتها في سنجار في الثالث من آب، وقد أُخذت مع 40 فتاة وامرأة تتراوح أعمارهن بين 12 و30 سنة. هي تجيد الإنكليزية، وكان حلمها الانتقال للدراسة في أوروبا.

وفي إطار الضغوط النفسية الممارسة على الايزيديات وأسرهن، يُسمح للفتيات بنقل ما يتعرضن لهن بالتفصيل إلى ذويهن. وفي حالة مايات، أعطى والداها رقم هاتفها إلى صحافي في “لا ريبابليكا” الإيطالية وأعادت “الاندبندنت” نشر ما كتبه عنها.

مايات اسم مستعار، “فأنا أخجل من الحديث عما فعلوه بي. جزء مني يتمنى الموت الفوري، أن أغرق تحت الأرض وأمكث هناك. والجزء الآخر ينشد النجاة وأن أتمكن من معانقة أهلي مرة أخرى”. وتتحدث مايات عن “غرف رعب” تُغتصب فيها النساء، يتعاقب الرجال على انتهاك أجسادهن مرات عدة يومياً. وتقول :”يعاملوننا كالعبيد. نُمنح على الدوام لرجال مختلفين، بعضهم يأتون من سوريا مباشرة… يهددوننا ويضربوننا لو حاولنا المقاومة. أحياناً أتمنى لو يضربوني بمزيد من القسوة حتى أموت. لكنهم جبناء، حتى في هذا الأمر، لا يملكون الشجاعة الكافية لإنهاء عذابنا”.

وحيال قسوة ما يتعرضن له، فقدت الكثير من الفتيات الأصغر سناً القدرة على النطق، وحاولت أخريات الانتحار…
نارين ومايات وشايما لسن حالات فردية، إذ يُعتقد أن هناك ثلاثة آلاف ايزيدية على الأقل أسيرات لدى “الدولة الإسلامية”، بعضهن نُقلن إلى الرقة. وأوردت صحيفة “الدايلي ميرور” أن “جهاديات بريطانيات” من “كتائب الخنساء” يُدرن بيوتاً للدعارة تُرغم فيها الايزيديات على ممارسة الجنس القسري مع المقاتلين.

إذ يتجه العالم إلى تكوين ائتلاف دولي لمواجهة خطر “الدولة الإسلامية”، تبقى الايزيديات ضحايا مزدوجة. فهن ضحايا للإرهاب ولعجز المجتمع الدولي عن وقف اجتياح الجهل والتكفير لهذه المنطقة ومحاولات إقامة “دولة” و”خلافة” انطلاقاً من سبي النساء وعلى أجسادهن المنهوشة.

السابق
«الانباء الكويتية»: عملية فصل عرسال عن جرودها
التالي
لماذا بات التدخل الاميركي مطلباً اسلامياً؟