عودة الأمسيات الموسيقيّة في الباشورة

ها قد عادت الأمسيات الموسيقيّة (سماع وتحليل)، التي يُقدّمها المؤرّخ الموسيقي الياس سحّاب، مَطلع كل شهر في المكتبة العامة لبلديّة بيروت – الباشورة، بعد انقطاع نسبيّ “يفرضهُ” الصيف كل سنة. وعاد معها الذوّاقة الأوفياء لهذه اللقاءات الحميميّة في “تكوينها” تماماً كما في إطلالتها. في هذه الغرفة المديدة و”المسكونة” بأبطال الكتب المُنتشرة “كالأغصان” على الرفوف، يعيشون لحظات “نغميّة” تبدو “هاربة” باستمرار. ولكنها أقرب إلى “الرفاهية التثقيفيّة” في كل حالاتها.

نديم “أمسية أيلول” الموسيقيّة، نصري شمس الدين، أو كما يصفه سحّاب، “الفنان المظلوم”! هذا الحنون النبيل الذي توفي باكراً على خشبة المسرح آخذاً معه ذاك الحنان الذي تمكّن من أن يُغيّر “لون اللامبالاة” وهذا الشعور الدائم بالألم بإزاء الحرمان على أنواعه.
السبب الرئيسي لهذا الظلم الذي نال شمس الدين نصيباً وافياً منه ينسبه سحّاب إلى “القضاء والقدر…هو وجوده إلى جانب وديع الصافي! والموقف يُشبه إلى حد بعيد ظهور الشاعر أبو فراس الحمداني إلى جانب المُتنبي. وأيضاً ظهور محمد فوزي إلى جانب عبد الوهاب. ومثل ظهور سميح القاسم إلى جانب محمود درويش – الشيء نفسه! شاء القدر أن يتزامن ظهور الكبير شمس الدين إلى جانب الصافي الذي كان أشبه بالـ “غول” فنّياً. وهنا المجال الأول الذي ظُلم فيه نصري شمس الدين”.
أمّا المجال الثاني الذي كان سبباً محوريّاً في عدم إنصاف “العملاق الحنون”، فيعود إلى “تعاونه مع الاخوين الرحباني، مع العلم ان هذا التعاون كان له وجهه الإيجابي الكبير إذ اختاره عاصي ومنصور ليكون النجم الدائم إلى جانب فيروز في معظم المسرحيّات. ولكن من الناحية السلبيّة، كان وجود فيروز إلى جانبه العنصرالمحوري، والسبب في أن تكون نزعة الرحابنة الأولى، إعطاء “الألحان الدسمة” لها! الأكيد ان كل الألحان التي أعطاها الأخوين الرحباني له كانت ناجحة، ولكن الألحان – الأكبر – كانت دائماً من نصيب فيروز”.
والنقطة الثالثة التي ساهمت في جعله “يستحق” لقب “الفنان المظلوم”، لها علاقة بكون كُثر اكتشفوا صوته الذي لن يتكرّر بعد وفاته. توفي شمس الدين، “وهو شاب، في عزّه الفنّي. لم يكن قد وَصل إلى مرحلة التقاعد بعد. صوته كان لا يزال في عزّ شبابه. لم تكن مساحاته الصوتيّة قد تقلّصت بعد. يعني، توفي ولم يكن قد فَقَد أي شيء من عدّته الفنيّة! مع الإشارة إلى ان عدّته الفنيّة كانت في غاية الأهميّة”.
إلى اللّحن الأول في الأمسية مع “ليلى دخل عيونها”، من ألحان فيلمون وهبي. “وكما هي العادة، ما بيعطي لحن الا وبيضرب جماهيريّاً. كانت ألحانه مثل شحنة الكهرباء وتُلاقي التجاوب الكبير عند الجمهور، وكل ألحانه تلفت النظر بسرعة. و”ليلى دخل عيونها” أغنية لاقت نجاحاً وما زالت تحصد النجاح في يومنا هذا”. ويرى سحّاب ان احدى مزايا صوت نصري شمس الدين يعود إلى “ثبات المُستوى فيه. وما لاحظناه في الأغنية الأولى التي استمعنا إليها نكاد نُلاحظه في كل أغانيه، وهي موهبة من الله، وهي خامة الصوت. صوت جميل جداً لطالما تميّز بمساحاته الواسعة، وفي الوقت عينه نجد فيه الحنان. بيطلع وبينزل، وحتى المساحات الوسطى فيها “حنيّة على حلاوة”، وبعد الموهبة يأتي دور الاجتهاد في ما يتعلّق بالأداء الصوتي. ونصري كان يُحسن التعامل مع صوته. ما بعرفلو غنيّة الا حلاوة صوتو وجمال الأداء من العناصر الثابتة التي لا تتغيّر”.
في النموذج الثاني، “جدّي يا جدّي”، هو الأداء المسرحي يبرع فيه “العملاق الحنون”، “وهو من أجمل ما أعطاه الأخوين الرحباني ويرتكز على ثنائي بينه وبين فيروز. هو مشهد مسرحي يُسلّط الضوء على “تفشيط الصيّاد”، مشهد مسرحي جميل جداً أبدع في تلحينه الأخوين رحباني كما أبدعت فيروز ونصري، وعلى المُستوى عينه في ما يتعلّق بالأداء. وهو من الألحان المسرحيّة المميزة للأخوين”. يُعلّق، “أعتبرها من أجمل ما غنّاه نصري. ويبرز هنا تميّز الأداء كما يبرز نجاح الأخوين كمُلحنين في تجسيد الموقف المسرحي الفائق الجمال”.
و”من حُسن حظّنا كمُستمعين ان نصري تعامل مع زكي ناصيف وكان هذا مكسباً لنا. وقد أعطى زكي لحناً لنصري يُمكن أن يكون أجمل ما يُظهر – حنيّة صوته وشفافيته”، وهو، “وحياتك يا درب العين”. “وهو من الألحان القصيرة” ولكن انتبهوا إلى جمال الّلحن البارز وإلى جمال وشفافيّة وحساسيّة نصري، وهذه العذوبة التي قلّ نظيرها”. يُعلّق، “هي أغنية قصيرة جداً ولكنها من أجمل ما غنّاه نصري والّلحن يأخذ الطابع السلافي. وكان زكي يستسيغ من وقت إلى آخر أن يتوغّل فيه، وهو الحال أيضاً مع الاخوين الرحباني وحتى محمد عبد الوهاب في إحدى أغنياته لأم كلثوم كان قد أخذ هذا الطابع. وهو طابع بَرَع زكي ناصيف فيه”.
إلى “عالأوف مشعل”، “وهي أغنية تُضاهي التي سبقتها في ما يتعلّق بإظهار شفافيّة صوت نصري في هذا اللحن الفولكلوري. لا أعرف من عالج هذا الّلحن ولكنني أرجّح الأخوين الرحباني. شفافية الصوت وحنانه من العناصر التي تُذكّرني بـ”وحياتك ع درب العين – خلّينا نسمع – عالأوف مشعل- “. ومن مزايا “نصري”، “أنّه نوّع كثيراً في أغنياته”.
إلى الأغنية الأخيرة في الأمسية، “المُصالحة” للأخوين الرحباني، وتفاعل الجمهور معها كثيراً ولم يملّ من دقائقها الـ16. ومع النوتة الأخيرة يُعلّق الياس سحّاب، “شي مهم كتير!”.

السابق
لبنانية تجمع الأموال لـ «داعش» في الدنمارك
التالي
انفجار كيميائي داخل متحف بولاية نيفادا الأميركية