الحوار السعودي – الإيراني: اقتراب تكتيكي

مصطفى اللباد

تحوّل الصراع السعودي – الإيراني في العقد الأخير إلى الصراع الإقليمي الرئيس في الشرق الأوسط، منه تتفرع الصراعات المحلية وفيه تصبّ نتائجها السياسية والإقليمية. ينطبق ذلك على لبنان وسوريا والعراق واليمن، وكلها صراعات ذات جذر محلي وفرع إقليمي لا يمكن تجاهله. فصل كاتب السطور في هذه النقطة قبل أربعة شهور (“السفير” – إيران والسعودية: نحو تهدئة ضرورية 28-4-2014)، مسلطاً الضوء على أهمية العامل الإقليمي في ضبط الصراعات المحلية. الآن تهتم هذه السطور بتحليل دوافع الاقتراب السعودي – الإيراني الحالي وخلفياته للطرفين، وبتوقعات لساحاته محل اهتمام الطرفين في هذه المرحلة. في هذا السياق ينبغي ملاحظة أن الحوار ليس وسيلة سحرية لحل المشكلات، بل وسيلة غير صفرية لتقنينها والتفاهم السياسي عليها. بمعنى أن التفاهمات المنبثقة عن الحوار لا تنصّب فائزاً بكل شيء وخاسراً لكل شيء على غرار المباريات الصفرية، بل تترجم النفوذ إلى تفاهمات تعكس موازين القوى الإقليمية الحالية بدقة، لا أكثر ولا أقل. تأسيساً على ذلك، لا يعني الحوار السعودي – الإيراني والتفاهمات الناتجة منه حلاً مستداماً؛ بل تكتيكياً وفق حسابات الطرفين. مثلما لا يعني هذا الحوار اقتساماً متساوياً للنفوذ بين الرياض وطهران، أو حتى الخروج بصيغة “لا غالب ولا مغلوب” اللبنانية الشهيرة التي لم يكن لها يوماً محل من الإعراب أو التحقق الفعلي على الأرض في أية قضية إقليمية أو دولية، بل إدارة الصراع بوسائل أكثر ليونة بحيث يخرج الطرفان ببعض المكاسب وإن كانت غير متساوية بطبيعة الحال وبمنطق الصراع.

عامل التوقيت في الحوار السعودي – الإيراني
تأخر الحوار السعودي – الإيراني لمدة سنة كاملة بعد انتخاب حسن روحاني، وإعلانه المباشر بعد فوزه بالرئاسة عن رغبته في الحوار مع السعودية لتخفيف التوتر الإقليمي. ومرد التأخر كان رغبة الطرفين في اختيار توقيت الحوار، لأن ما تعكسه موازين القوى في وقت الحوار، سينعكس حكماً على التفاهمات المنبثقة عنه. لذلك توخى كل من الطرفين أن يجري الحوار في توقيت يراه مناسباً لمصالحه، أو على الأقل في توقيت غير موات نسبياً لمصلحة الطرف الآخر. لم تكن السعودية مرتاحة لتوقيت عقد الحوار بالتوازي مع الزخم الدولي المترافق مع انتخاب روحاني العام الماضي، ما كان سيعطيه شرعية إقليمية ارتأت الرياض ألا تسلمها لطهران مبكراً. ثم اهتز الوضع السعودي مقابل إيران بسبب المفاوضات النووية بين إيران والدول الست الكبرى (في العمق بين إيران وأميركا)، بسبب أن التقارب بين إيران والضامن الرئيس للأمن القومي السعودي يقوّض مواقع المملكة الإقليمية والتفاوضية. ومع كل لقاء بين إيران ومفاوضيها النوويين كان ترمومتر الحذر السعودي يرتفع خشية وصول المفاوضات إلى اتفاق نووي بين إيران والدول الست الكبرى، وما سيتمخض عنه حكماً من اتفاق إقليمي إيراني – أميركي على حساب السعودية ونفوذها الإقليمي. لذلك فقد استمرت الرياض في تقديرها أن توقيت الحوار مع طهران غير مناسب لها، لأن كل طرف سيحاول منطقياً تجيير علاقاته مع واشنطن أثناء الحوار لانتزاع تنازلات من الطرف الآخر.
ثم تغير الموقف السعودي في شهر أيار الماضي، حيث دعا وزير الخارجية السعودي نظيره الإيراني جواد ظريف لزيارة المملكة لما بدا أن هناك مشاكل تعترض المفاوضات النووية بين إيران والغرب، ما كان سيؤمن وضعية تفاوضية أفضل للسعودية. لذلك السبب فقد تملص ظريف من الدعوة السعودية متعللاً بتضارب المواعيد، كما أن فوز حلفاء إيران بالانتخابات البرلمانية في العراق كان في حاجة إلى تظهيره بحكومة جديدة أولاً، ومن ثم المفاوضة مع الرياض من موقع أقوى. هكذا تبادل الطرفان التمنع عن تلبية دعوة الآخر، بسبب أهمية عامل التوقيت. ولكن الموقف تغير جذرياً مع “الانتصارات العسكرية” لتنظيم “داعش”، بسبب التهديد المشترك الذي يمثله لكل من طهران والرياض.

“داعش” وحسابات طهران
زار نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان السعودية الأسبوع الماضي، والتقى وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل لمناقشة الملفات الإقليمية، في زيارة هي الأولى من نوعها لمسؤول إيراني منذ العام الماضي. ومع التراجع المتتالي للجيش العراقي وسيطرة “داعش” على مناطق واسعة في غرب العراق وشماله، كانت الخسائر الإيرانية واضحة لكاتب السطور وكل ذي عينين (“السفير” – تطورات العراق تقطع الطريق البري بين طهران وبيروت 30-6-2014). صحيح أن قوة “داعش” العسكرية محل شك، وأن “انتصاراتها” السريعة صيف هذا العام ستظل محاطة بعلامات الاستفهام، لكن حل أزمة “داعش” يتطلب تفكيكاً سياسياً لحاضنتها العشائرية قبل ضربها عسكرياً. فمن الواضح أن “داعش” تقتات في صعودها المريب على مظلومية العشائر والعرب السنة في العراق حيال السلطة المركزية في بغداد ـ مهما اختلفنا في تقدير هذه المظلومية – وبالتالي يكمن ألف باء الحل السياسي في إعادة تأهيل المكون السني في بنية السلطة المركزية في بغداد (وليس تغيير جوهر السلطة في بغداد) لتعرية التنظيم التكفيري من حاضنته العشائرية والمناطقية. ولإقناع العشائر السنية بهذا الحل، تحتاج إيران إلى السعودية وعلاقاتها الواسعة مع هذه العشائر. ومثلت تسمية حيدر العبادي بدلا من نوري المالكي رئيساً للوزراء في العراق، ترضية مهمة للسعودية قبل أي طرف آخر، على الرغم من أن التوازن الأعمق في سلطة بغداد المركزية ما زال مائلاً صوب طهران وتحالفاتها الإقليمية.

“داعش” وحسابات الرياض
على الرغم من بعض التحليلات التي ترجع الأصول الفكرية لتنظيم “داعش” إلى السعودية بسبب التشابه في طريقة القصاص بقطع الرؤوس، إلا أن “داعش” تهدد الحدود العراقية – السعودية وتقوّض في الواقع المشروعية السعودية في المنطقة، سواء ضمن التيار السلفي أو الحالتين السنية والإسلامية العامة. لذلك ظهرت مصلحة مشتركة جديدة بين الرياض وطهران، مفادها مواجهة “داعش” التي تهدد الطرفين، مع التسليم بأن الأخطار التي تسببها لإيران أكبر من تلك التي تسببها للسعودية. كانت التطورات في اليمن محفزة للرياض أكثر كي تذهب إلى الحوار مع طهران، حيث استثمر حلفاء طهران الحوثيون الفراغ السلطوي المنبثق عن إطاحة الرئيس السابق علي عبد الله صالح واحتراب الحلفاء التقليديين للسعودية في ما بينهم، فزادوا من حضورهم العسكري والسياسي على المستوى اليمني العام، وليس على مستوى مناطقهم الجغرافية في الشمال فقط. ومع ما هو ظاهر من رغبة الحوثيين في استلهام تجربة حزب الله في الدخول إلى السلطة في لبنان، قرعت أجراس الإنذار بوضوح في الرياض.

لبننة الصراعين العراقي واليمني
لا يحتاج المرء للجلوس الى طاولة المفاوضات بين الطرفين السعودي والإيراني، أو لسماع تسجيلات صوتية للحوارات أو التفرس عن كثب في وجوه المفاوضين وتعبيراتها، ليخرج مع ذلك باستنتاجات واحتمالات متوقعة، على هدي تحليل المتغيرات الإقليمية ودوافع الأطراف المتفاوضة ومغزى التوقيت. تحتاج طهران إلى السعودية لمحاربة “داعش” سياسياً في العراق عبر تفعيل التناقض بين التنظيم التكفيري وحاضنته العشائرية السنية، التي تملك معها السعودية علاقات متشابكة، لأن الضربات العسكرية وحدها لن تكفي لهزيمة “داعش”. ومعنى ذلك أن المقابل الذي ستدفعه طهران لقاء ذلك سيكون متمثلاً في إفساح مكان أكبر للعراقيين السنة على طاولة السلطة المركزية في العراق، وما إزاحة نوري المالكي إلا عربون لذلك قبل بدء الحوار السعودي – الإيراني. بالمقابل تحتاج الرياض إلى طهران لمنع انهيارات أمنية أكثر في خاصرتها الجنوبية اليمن، التي تشكل صداعاً مزمناً للسعودية واستعصت على الكسر عسكرياً كما ظهر من الجولات العسكرية السابقة معها خلال الأعوام الماضية. ومعنى ذلك أن المقابل الذي ستدفعه الرياض سيكون متمثلاً في “لبننة” السلطة في صنعاء أيضاً، بحيث يدخل الحوثيون إليها لأول مرة إلى جوار تحالفات السعودية الحاكمة هناك منذ عقود. ولما كانت مواقف الطرفين عصية على التجسير تفاوضياً في سوريا، سيقتصر التفاهم السعودي – الإيراني التكتيكي على العراق واليمن في هذه المرحلة إلى حين تغير التوازن الصراعي في سوريا لمصلحة أي من الطرفين المتحاربين، ساعتها يكون لكل حادث حديث آخر. ولأن ما يجري في سوريا له تأثير مباشر على لبنان لاعتبارات الجغرافيا والتاريخ والطوائف، فلم يتطرق الحوار السعودي – الإيراني لهذا السبب السوري إلى لبنان؛ الذي يبدو أن نموذجه في اقتسام السلطة سيتعمم على ساحات الصراع الإقليمي في العراق واليمن، برعاية مشتركة سعودية – إيرانية!

 

السابق
من المغول إلى ’داعـش’
التالي
زعيم الحوثيين يدعو لعصيان مدني